لماذا تضحي أيها المسلم
عباد الله: ها نحن أولاء بين يدي موسم عظيم من مواسم الخيرات والبركات، أيامٍ فاضلةٍ شريفةٍ، خصَّها الله تعالى بمنزلة رفيعة بين سائر الأيام، فالحمد لله الذي أمدَّ لنا في الأجل، وبارك لنا في العمر، ونسأله سبحانه أن يوفقنا للطاعات، ويتقبلها منَّا في هذه الأيام: أيامِ العشر من ذي الحجة، التي يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم في فضلها: «مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْعَشْرِ؟» قَالُوا: وَلاَ الجِهَادُ في سبيل الله؟ قَالَ: «وَلاَ الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ» خ. وفي حديث آخر: (مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمَ عِنْدَ اللَّهِ، وَلاَ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ عشرِ ذي الحجَّة، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التسبيح وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ). أي: أكثروا فيهن من قول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وتاسع هذه الأيام العشر هو يوم عرفة: وما أدراك ما يوم عرفة؟ إنه يوم أنزل الله تعالى فيه على نبيه الكريم قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا}؛ فهو يوم إكمال الدين، وإتمام النعمة، ويوم مغفرة الذنوب وتكفير السيئات والعتق من النار؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ يَوْمٍ أكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ الله عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإنَّهُ لَيَدْنُو عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلائِكَةَ فَيقول: مَا أرَادَ هَؤُلاءِ؟) أخرجه مسلم.
وعاشر هذه الأيام العشر هو يوم النحر: وما أدراك ما يوم النحر؟ إنه يومُ الحج الأكبر، يومٌ أخبرَ النبي صلى الله عليه وسلم بفضله فقال: (إنَّ أَعْظَمَ اْلأيّامِ عِنْدَ الله يَوْمُ النّحْرِ، ثُمّ يَوْمُ الْقَرّ)؛ ويوم القرِّ هو اليوم التالي ليوم النَّحر، ففضْلُ هذه الأيام العشر لا ينتهي بانتهائها، بل تلحق بها أيام التشريق: وهي الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر. فيوم النَّحر وأيام التشريق، أربعة أيام: هي أيام عيد الأضحى المبارك، هي أيام عيدنا أهلَ الإسلام، كما قال نبينا الكريم: (أيام التشريق: أيامُ أكلٍ وشربٍ وذكرِ الله)، وقال: (من كان صائمًا فليفطر، فإنها أيامُ أكلٍ وشربٍ). وهي الأيام المعدودات التي قال الله عز وجل فيها: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}.
أيها المسلمون: وإذا كانت هذه الفضائل العظيمة، والخصائص الكريمة متعلقة بالركن الخامس من أركان الإسلامِ: الحجِّ، والحجُّ له مكانُه الخاصُّ به في الديار المقدسة: في المسجد الحرام، وعرفة، ومنًى، فلا يقيم هذا الركن، ولا ينال هذا الفضل؛ إلا من شرَّفه الله بشدِّ الرحال إلى تلك البقاع الطاهرة، وأدَّى مناسك الحج والعمرة، وأقام شعائرها كما أمره الله تعالى... نعم؛ للحجَّاج هذه الخِصِّيصَةُ التي لا يشاركهم فيها إلا من رزقه الله تعالى نعمةَ الحجِّ، وهم قلةٌ قليلة، وطائفةٌ يسيرة بالنسبة إلى مجموع أعداد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ فكان من حكمة الله تعالى ولطفه، ومن كرمه وإحسانه؛ أن جعل جميع المسلمين مشاركين لهم في تعظيم هذه الأيام بالذكر والدعاء والصيام، خاصةً صومِ يوم عرفةَ، وبسائر الأعمال الصالحة، وأعظمها في هذا الموسم: الأضحية، فإنه سبحانه جعل عامة المسلمين مشاركين لحجاج بيته الحرام في شعيرة عظيمة، هي شعيرة النُّسُك، ففي يوم الحجِّ الأكبر، يوم النحر، يبدأ الحجَّاج بنحر هديهم، وكذلك يبدأ المسلمون أينما كانوا يضحُّون. بل جعل بين من يضحي وبين الحجاج مشابهةً وموافقةً في بعض الأمور الخاصة بالحاجِّ المُحرِم، فلا يجوز لمن أراد الأضحيةَ أن يقصَّ أظافره ويحلق شعره إلا بعد ذبح أضحيته، فهذا فيه حكمة التشبه بالحجاج في كونهم شُعثًا غبرًا ـ أي في حال متواضعة لتجنُّبهم الزينة وإهمالهم تسريح شعرهم وتقليم أظافرهم ـ قال رسول الله: (إِذَا رَأيْتُمْ هِلالَ ذِي الْحِجَّةِ، وَأرَادَ أحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ؛ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعرِهِ وَأظْفَارِهِ). وفي لفظ: (فَلا يَمَسَّ مِنْ شَعرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا) مسلم.
عباد الله! إنَّ الأَضحية شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام، وما يزال ملايين المسلمين يقيمون هذه الشعيرة في مختلف أرجاء الأرض، لكنَّ كثيرًا لا يدركون حقيقة هذه السنة الإبراهيمية المحمدية، ولا يستحضرون معاني العبودية في أدائها، فقد تحوَّلت عند كثيرٍ منهم إلى عادة وتقليدٍ مرتبطٍ بالعيد، حتَّى إنَّ بعض المسلمين في بعض البلاد يأخذون قرضًا ربويًّا من البنك لأضحيتهم، وكثير منهم لا يصلِّي ويرتكب كبائر الذنوب لكنه يضحِّي. فلا بدَّ لكلِّ مسلم يريد الأَضحية أن يسأل نفسه: لماذا أُضحِّي؟ ولا بدَّ أن نهمس في أذن كلِّ مسلم مذكِّرين وناصحين ومشفقين: لماذا تضحِّي أيها المسلم؟
فاعلم ـ يا أخا الإسلام ـ أنَّ الذَّبحَ من أعظم أنواع العبادات، فهو لون من ألوان التعبُّد والتذلُّل والتقرُّب إلى الله عزَّ وجلَّ، مثل الصلاة والزكاة والصيام، وسائر العبادات، كما قال الله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}، والنُّسُك: هو الذَّبح، ويكون في شريعتنا أهلَ الإسلام: من الإبل والبقر والغنم، فقرن الله تعالى بين عبادتين عظيمتين: عبادة الصلاة، وعبادة الذبح: النسك. كما قال سبحانه في الآية الأخرى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}. لهذا كان الذبحُ لغير الله تعالى من الشرك الأكبر، الناقض لأصل التوحيد، فمن ذبح لغير الله فهو مشرك شركًا مخرجًا عن الملة ـ والعياذ بالله ـ سواء ذبح ذلك لملك من الملائكة، أو لرسول من الرسل، أو لنبي من الأنبياء، أو لخليفة من الخلفاء، أو لولي من الأولياء، أو لعالم من العلماء، فكل ذلك شرك بالله عز وجل، يُخرج فاعلَه عن ملة الإسلام. والواجب على المرء أن يتقي الله في نفسه، وأن لا يوقع نفسه في ذلك الشرك الذي قال الله فيه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من ذبح لغير الله) مسلم.
عباد الله: إن هذه العبادة العظيمة قديمةٌ قِدَم البشرية على وجه الأرض، قد علَّمها الأنبياءُ والرسل لأقوامهم، كما قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}، قال المفسرون: معنى الآية: لكلِّ جماعة مؤمنة من الأمم السالفة جعلنا ذبح القرابين لِيَذْكُرُوا اسْمَ الله عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ، وهي الإبل والبقر والغنم. والمراد من الآية: أن الذبائح ليست من خصائص هذه الأمة، وأن التسمية عليها كانت مشروعة قبل هذه الأمة.
ومن هنا: فإننا نجد عبادةَ الذبح، عبادة تقريب القرابين؛ موجودةً عند أكثر الأمم من أهل الكتاب والمشركين الوثنيين، ذلك لأنهم أخذوا هذه العبادة من أنبيائهم، ثم لما انحرفوا في عقائدهم، ووقعوا في الشرك، صاروا يصرفون هذه العبادة لغير الله تعالى من الأصنام والأوثان والقبور والأموات.
فإذا علمتَ هذا أخي المسلم: فاعلم أنَّ الأَضحية ليست عادةً من العادات، ولا تقليدًا من التقاليد، ولا احتفالاً على سبيل الترفيه والعبث... بل الأضحية عبادة من العبادات، عبادة مثل الصلاة والركوع والسجود والصيام وسائر العبادات، لهذا كان من السنة المستحبَّة في الأضحية: أن يباشر أضحيته، ويذبح بيده، ولا بدَّ فيها من نيَّة التعبُّد لله، فمن ذبح من غير نيَّة التعبد، فقد ذبح للَّحم وليس للعبادة. قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}.
الخطبة الثانية:
عباد الله: إنَّنا في زمن قلَّ فيه العلم، وعظم فيه الجهل، لا أعني الجهل بأمر الدنيا، فالناس اليوم قد فُتحت عليهم أبواب العلم المادي بما لم يفتح لمن قبلهم، حتى صار يصدُق في كثير منهم قول الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}، نعوذ بالله من حال الكافرين: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}... وبسبب هجمة الأفكار المادية، وتعلق القلوب بالدنيا، والانكباب عليها؛ انتشر بين المسلمين فكر خطير، هو في جذوره وحقيقته: فكر إلحادي، يُبطل النبوة والشريعة، إنه عقيدة وفكر ومنهج يفسِّر الدين كلَّه تفسيرًا نفعيًّا، لا ينظر إلى جانب تحقيق العبودية لله، لا ينظر إلى جانب أن الإنسان عبدٌ ضعيفٌ ذليل خاضع لربِّ الأرض والسماوات، وأنَّ الله تعالى خلقه لغايةٍ محددةٍ، وهي أن يعبده ويتقرب إليه ويتذلَّل بين يديه ويتوجه إليه بأنواع العبادات وأصناف الطاعات. بل يفسِّر الدين بأنه مشروع لإعمار الأرض، وبناء الدولة والمجتمع، ولخدمة البشرية، ولنشر الأخلاق والفضائل. فهذا الفكر المنحرف يأخذ آثار الدين وثماره الطيبة في الأخلاق والسلوك والمجتمع؛ فيجعلها هي الغاية والمقصد من الدين كلِّه، فيبطل حقيقةَ الدين ولبَّه، ويمسخ روحَه وجوهره، فيجعل الدين والعبادة مجرد وسيلة ووساطة للمصالح والمنافع الدنيوية المادية والاجتماعية. فالصلاة ـ عندهم ـ: تمارين رياضية ودورة تدريبية، والصيام: صحة نفسية وجسدية واجتماعية، والزكاة: تضامن اجتماعي واشتراكية. والحج: مؤتمر سياسي وتظاهرة عالمية.. وهكذا يُبطلون جميعَ حقائق العبادة والدِّين والشريعة.
فإذا جئنا إلى هذه العبادة العظيمة: عبادة التقرُّب إلى الله بالدَّم؛ قالوا: إنها لإطعام الفقراء! والحقيقةُ: أنَّ الأَضحيةَ ليس الغرضُ منها الصدقةُ على الفقراء، فالأضحيةُ سنةٌ ـ وهي سنةٌ واجبةٌ في حقِّ المقيم الموسِر ـ سواءٌ وُجد الفقراءُ أم لم يوجدوا، وسواء كان المضحِّي في حاجةٍ للَّحم أم لا، فلا بدَّ أن يضحِّي لإقامة هذه الشعيرة، وإقامة هذه العبادة، لا يترجي في ذلك فائدةً ماديةً أصلاً، ولا يقصِد غرضًا دنيويًّا، بل يضحِّي بنيَّة التعبدِ الخالص لله: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}.
نعم؛ في إقامة هذه الشعيرة فائدة لبعض الفقراء، من باب النتيجة والثمرة، أي: إذا أقمنا هذه العبادة فقد يستفيد الفقراء من بعض لحوم الأضاحي، لهذا كان من المشروع أن يتصدَّق ببعضها، كما قال تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} يعني: من يسأل ومن لا يسأل من الفقراء والمساكين. وهذا الأمر في الآية للإباحة لا الوجوب، حتى قال فقهاء الحنفية: ولو تصدق بالكلِّ جاز، ولو حبس الكلَّ لنفسه جاز، لأن القربة في إراقة الدم. وقال الإمام ابن قدامة: والأمر في هذا واسعٌ، فلو تصدَّق بها كلِّها أو أكثرِها جازَ، وإن أكلها كلَّها إلا أُوقِيَّةً ـ والأوقية: في حدود مئة غرام إلى مئتي غرام ـ، وإن أكلها كلَّها إلا أُوقِيَّةً تصدَّق بها: جاز.
فتفقَّهوا ـ أيها المسلمون ـ في دينكم، وصحِّحوا نياتِكم، وأخلصوا عباداتِكم، واحذروا من مسالك المنحرفين في تحريف حقيقة العبادة لربِّ العالمين، وإفساد معالم الدِّين.
- لا يوجد تعليقات بعد