موقع الشيخ عبد الحق التركماني - القضية الكبرى في سورة الكهف

/ 20 أبريل 2024

للتواصل 00447432020200

القضية الكبرى في سورة الكهف

نشرت بواسطة : إدارة الموقع تاريخ غير محدد 1340

من السنن المستحبة، التي أرشد إليها خاتم النبيين، ودرج عليها العلماء والصالحون: قراءة سورة الكهفِ في ليلة الجمعة أو في يومها، وقد صحَّ في ذلك قول النبي: (من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة، أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق)، وفي حديث آخر: (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين). ولهذه السورة فضيلة عظيمة، وتأثير بالغ، ففيه النور والضياء، وفيه العصمة فتنة من فتنة الدجَّال، كما قال: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصم من الدجال) م. وفي حديث آخر في صحيح مسلم أخبر رسول الله عن فتنة الدجال، ثم قال: (فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف).

عباد الله! سورة الكهف فيها مواعظ عظيمة، وحكم جليلة، وقد تضمنت أربع قصصٍ فيها عبرة وعظة: قصةَ أصحاب الكهف، وقصة صاحب الجنَّتين، وقصة موسى والخضر، وقصة ذي القرنين. ففي هذه السورة من العلوم والفوائد ما لا يمكن شرحه في خطبة جمعة... لكن تعالوا معي ـ أيها الإخوة ـ نتأمل في هذه السورة: ما هي القضية الكبرى في هذه السورة؟ ما هي الحقيقة المركزية التي تدور حولها جميع الحقائق المذكورة في السورة؟ ما هي الرسالة الأعلى منزلةً، والأكبر أهميةً في السورة كلها؟

إنَّ القضية الكبرى في هذه السورة ـ كما في القرآن كله ـ هي قضية الآخرة، قضية البعث والنشور، قضية المصير الأبدي للإنسان: إما في الجنة ونعيمها، وإما في النار وعذابها. ولهذه القضية الكبرى أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، لهذا افتتحت هذه السورة بالإنذار بها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}.

ولما كانت القضية الكبرى هي قضية الحياة الآخرة الأبدية الخالدة، فلا بدَّ أن تتصاغر وتتضاءل أمامها قضية هذه الحياة الدنيا القصيرة الزائلة، فهي دار ابتلاء وامتحان: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}.

ثم ننتقل إلى قصة أصحاب الكهف؛ فنجد أن الغاية المركزية فيها ـ رغم ما فيها من الحكم والمواعظ والغايات والمقاصد ـ تتلخَّص في إقامة البرهان الحسيِّ على البعث والنشور: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا}.

عباد الله! إن العمل للآخرة، والاستعداد لها يحتاج إلى صبرٍ وثبات وإلى الحذر من الانشغال بالدنيا وزينتها، وهنا يأتي الخطاب إلى النبي وهو الأسوة والقدوة للمؤمنين أجمعين: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ولا تعد أي: لا تصرف ولا تتجاوز، عيناك عنهم، إلى غيرهم، تريد زينة الحياة الدنيا.

إن الإيمان بهذه الحقيقة يحمل على الإنذار والدعوة، والعملَ بالمصير الآتي يحمل على الجدِّ والعمل والمسارعة إلى الخيرات والبعد عمَّا يكون سببًا للخسران: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا}.

ثم تأتي قصة صاحب الجنتين، صاحب بستانين، من أعنابٍ ومن جوانبهما نخل، ووسطِها الزرع. فقد آتاه الله خيرًا كثيرًا، لكنَّه اشتغل بالعطاء عن المعطي، واغتر بالعاجلة ونسي الآخرة، فعجَّل الله تعالى له العقوبة في الدنيا فأرسل على بستانه نارًا فأهلكتها وغار ماؤها... وفي هذا عبرة لكلِّ من تملكت الدنيا قلبه، فصارت أكبر همِّه، لهذا أعقب الله هذه القصَّة ببيان حال هذه الدنيا: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إذن لا بدَّ من العمل لما هو ثابت لا يزول ولا يتحول، وهو العمل للآخرة: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}. ثم يأتي وصف البعث والنشور والمجيء بكتاب الأعمال والوقوف بين يدي الله تعالى للحساب والجزاء، ومصير أهل الشرك والتكذيب.

وبعد قصية موسى والخضر وقصة ذي القرنين تعود السورة مرة أخرى إلى تقرير القضية الكبرى، لتكون هي خاتمة السورة ونهايتها، وكأنَّ جميعَ ما سبق كانت بمثابة المقدمة والتمهيد لهذه النتيجة الكلية: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا * وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا * أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا}

ثم يأتي السؤال: ما هو مصير الذين عملوا من أجل الدنيا ولم يعملوا للآخرة، أعطوا حقوق العباد وضيَّعوا حقَّ ربِّ الأرض والسماوات في أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئًا؟ فإليكم الجواب: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا}.

أما الذين حققوا العبودية لله عز وجل وعملوا ليوم الدين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}.

وتُختتم هذه السورة بآية جامعة لمقاصدها: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} فيه إثبات النبوة والرسالة {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فيه إثبات توحيد العبادة {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} فيه إثبات البعث والنشور {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} فيه بيان سبيل النجاة: العمل الصالح الموافق لما يحبُّه الله تعالى ويرضاه من شريعته ودينه، وإخلاص العبادة لله تعالى بنفي الشرك والكفر والنفاق. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات.

الخطبة الثانية:

عباد الله! تلك هي القضية الكبرى في سورة الكهف، وهي القضية الكبرى للقرآن كله، والرسالة المحمدية كلها: إنها قضية الاستعداد للمصير القادم: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}، وهذا يستوجب الزهد في الدنيا وعدم التكالب عليها: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}... فأين نحنُ ـ أيها المسلمون ـ من هذه (القضية الكبرى)، لا أتحدث هنا عن الكفار الذين: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}، بل عن المسلمين الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، عن الذين رضوا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا ورسولًا، لقد عظمت الغفلة، وقست القلوب، واشتدَّ التعلق بالدنيا، والجرأة على كبائر الذنوب كالتهاون في الصلوات ومنع الزكاة والتعامل بالربا وأكل حقوق الناس، والجرأة على أمور عظيمة تُفسد على العبد دينه، حتى من كثيرٍ ممَّن ينتسبون في ظاهر أمرهم إلى العلم والدعوة، يغالبون على الدنيا ويحرِّضون على الصراع والهلاك من أجلها، فكلَّ يوم جمعة يخرج الآلاف من المسلمين في مظاهرات في بلاد الإسلام، فيَقتلون أو يُقتلون لا يدري القاتل فيمن قَتل، ولا المقتول فيما قُتل، ويخرِّبون ويُفسدون... فأين هم من قراءة سورة الكهف يوم الجمعة؟ والتفقه في معناها؟ والسلوك والتصرف بهداها ونورها؟ أين الأكثرون من هذه الأمة عن الإنذار الذي يتجدَّد نداؤه يوم الجمعة من خلال سورة الكهف التي يقرؤها الملايين في مشارق الأرض ومغاربها؟ وهل تصلح هذه الأمة أن تقوم بوظيفة التبليغ والإنذار للناس أجمعين، نيابة عن نبيها، وهذا حالها من الفوضى والقتل والخراب والدمار والمغالبة على الدنيا؟ إن العقلاء لا يتجنبون هذه الأفعال لمصلحة دنياهم، فكيف بالمؤمنين الصادقين الذين يعلمون لآخرتهم ويقدِّمون مصلحة الآخرة فوق كلِّ مصلحة وغاية.

فتدبَّروا ـ أيها المسلمون ـ كتاب ربِّكم، وتبصَّروا في آياته ومواعظه، ولا تغفلوا عن غاياته ومقاصده، واحذروا من تلاوة بلا فهم، ومن علم بلا عمل، فقد أخبر نبيكم الكريم عن بعض الفتن التي تقع في الأمة، ثم قال: «وذاك عند أَوَانِ ذَهَاب العِلْم» فقال زياد بن لبيد الأنصاري رضي الله عنه: يا رسول الله! وكيفَ يَذْهبُ العلم ونحن نَقْرأُ القرآن، ونُقْرِئُهُ أبناءَنا، ويُقْرئُهُ أبناؤُنا أبناءَهم إلى يوم القيامة؟ قال: «ثَكِلَتْكَ أُمُّك يا زياد! إنْ كنتُ لأُراك منْ أُفْقهِ رجلٍ بالمدينة، أَوَلَيْسَ هذه اليهود والنَّصارى يقرؤون التوراةَ والإنجيل لا يَنْتَفِعون مما فيهما بشيءٍ؟». أسأل الله تعالى أن يعلمني وإياكم ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا، ويجعله حجة لنا لا علينا، ويقينا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

اللهم اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصائب الدُّنْيَا، اللهم أمتعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا.

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد