فاعلم أنه لا إله إلا الله – 2
عباد الله: تكلَّمنا في خطبة سابقةٍ عن قول الله تعالى في سورة محمد: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}، فتكلمنا عن كلمة التوحيد والعلم بها، فلنتكلم اليومَ عن الشطر الثاني من هذه الآية: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}.
أيها المؤمنون: جاءت هذه الآية الكريمة بعد أن بدأت السورة بذكر الصراع بين المؤمنين والكافرين، بين الحقِّ والباطل، وذِكْر أحوال كل فريق في الدنيا والآخرة، ثم جاء ذِكرُ صنف ثالث، وهم المنافقون، إنهم المترددون، المتقلبون: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا؟ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ * وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}، ثم جاء الوعيد الإلهي: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ}، فهل ينظر هؤلاء المكذّبون بآيات الله من أهل الكفر والنفاق إلا الساعة التي وعد الله خلقه، يبعثُهم فيها من قبورهم أحياء، أن تجيئهم فُجاءة لا يشعرون بمجيئها. (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) فقد جاء هؤلاء الكافرين بالله الساعةُ وأدلتها ومقدماتها وعلاماتها، ومن أعظم علامات قربها: بعثة محمد خاتم النبيين، ونزول القرآن آخر الكتب، كما في قوله: {هذا نذير من النذر الأولى أزفت الآزفة}، وقوله: {اقتربت الساعة وانشق القمر}، وقوله: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه}، وقوله: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون}، (فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ) فمن أيّ وجه لهؤلاء المكذّبين بآيات الله؛ ذكرى ما قد ضيَّعوا وفرّطوا فيه من طاعة الله إذا جاءتهم الساعة، يقول: ليس ذلك بوقت ينفعهم التذكُّر والندم، لأنه وقت مجازاة لا وقت استعتاب ولا استعمال.
وهنا يأتي الأمر للنبي وهو أمرٌ له ولأمته، ففي خضَّم ذلك الصراع، وعندما يرى المؤمنون عناد المعاندين، وضلال الضالين، وتقلبات المنافقين؛ لا بدَّ أن يحكمَ المؤمنَ تلك القضيةُ المركزية في عقيدته وتفكيره، إلا وهي: قضية الساعة، قضية البعث والنشور، والوقوف بين يدي الله تعالى، لهذا جاء هذا الأمر: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}، فينبغي على المؤمن أن لا يشغله أهل الكفر والنفاق، أن لا تشغله صراعات الدنيا وتقلبات أحوالها؛ عن قضيته الكبرى، وهي الاستعداد ليوم المعاد، والاكتساب ليوم الحساب، لهذا جاء الأمر بالعلم والعمل: العلمُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ: إيمانٌ صادق ثابت يمنح القلب سكينة واستقرارًا وقوة وثباتًا أما كلِّ الفتن والمغرِيات، والعمل: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، عملٌ يوثِّق الصلة بالله، ويقرِّب العبد الضعيف الفقير من الربِّ القوي الغنيِّ، عمل ملؤه التذلل والخضوع والمحبة والخوف والرجاء، لأنه يخاف من فجاءة الساعة، ومن هجمة الموت، ومن نهاية قريبة لهذه الحياة لا يعرف موعدها، لكنها قريبة جدًا، قد يأخذه الموت وهو نائم على فراشه، أو خارج في طريق عمله، يأخذه الموت بسبب ظاهر، أو من غير سبب: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}.
عباد الله! لقد جاء الأمر للنبي بالاستغفار من ذنبه، لأنه الأسوة والقدوة لجميع المؤمنين، فإذا كان إمام المرسلين، وخاتم النبيين، وخير البشرية أجمعين: يستغفر ربَّه بتذلل وخشوع ومحبة وتعظيم وإجلال وخوف ورجاء؛ فكيف بنا ـ أيها المسلمون ـ ونحن المذنبون، المقصرون، الغافلون..
لقد كانت قضية الآخرة، والحساب بين يدي الله؛ تحكم قلبَ رسول الله وتفكيره وهمَّه، كان يقول في بعض دعائه: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي". وكان يقول في آخر الصلاة: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت إلهي لا إله إلا أنت". وكان يقول: "يا أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة"
وعن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قال: كنا نعُدُّ لرَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في المجلس مئة مرة: (رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم).
وكان رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً وقال: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) قيل للأوزاعي، وهو أحد رواة الحديث: كيف الاستغفار قال: يقول أستغفر اللَّه، أستغفر اللَّه.
لقد لازم النبيُّ الاستغفارَ في أحواله كلها، حتى بعد أن حقَّق الله على يده الخير العظيم: فأظهر دينه، وكسر الشرك وأهله، وجاءت بشائر التمكين له في الأرض، عند ذلك تجدَّد الأمر الرباني لنبيه بالاستغفار، إذ نزلت سورة النصر: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ـ الفتح: فتح مكة ـ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً}، قال المفسرون: نُعِيَتْ إليه نفسُهُ بنزول هذه السورة، وأُعْلِم أنه قد اقترب أجله، فأُمر بالتسبيح والاستغفار ليختم له عمره بالزيادة في العمل الصالح، فقالت عائشة: كان رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل موته: (سبحان اللَّه وبحمده، أستغفر اللَّه وأتوب إليه).
أيها المؤمنون! تلك حال نبيكم في تعظيمه لربه، واستعداده للقائه، ولزومه للتوبة والاستغفار... هكذا نجد شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في كتاب الله وفي أحاديثه الصحيحة المتواترة، ولا شكَّ أن النبي معصوم من كبائر الذنوب، ومعصوم من كل ذنب أو فعل وتصرف يقدح في رسالته ونبوته وفي عقله وعدالته ومروءته، لكنَّه رغم ذلك بشرٌ، فلا مجال للغلوِّ في شخصيته، والاعتقاد فيه بما يخالف طبيعته البشرية.. إن ادعاء العصمة المطلقة حتى مما لا يقدح في شخصيته، وادعاء أنه خلق من نور، أو خلقت السماوات والأرض والإنس والجن من أجله، وغير ذلك من الخرافات والجهالات هي مخالفة لحقائق القرآن والسنة: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، يُوحَى إِلَيَّ: أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرُوهُ، وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ}. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأقول قولي هذا...
------------------------
الخطبة الثانية:
عباد الله: أمر النبيُّ بالاستغفار من ذنبه، ثم أمر بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات، وذكر المؤمنات للتأكيد على حقِّهن، فإنهنَّ داخلاتٌ في المؤمنين، وهذا في حياته صلى الله عليه وسلم، كان يستغفر للمؤمنين والمؤمنات، وهي سنة للمؤمنين جميعًا: أن يستغفر بعضهم لبعض، لأن الإيمان قد جعل لهم حقَّا على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ، ومن جملة حقوقهم: أن يدعو لهم ويستغفر لذنوبهم، وإذا كان مأمورًا بالاستغفار لهم المتضمن لإزالة الذنوب وعقوباتها عنهم، فإن من لوازم ذلك النصح لهم، وأن يحب لهم من الخير ما يحب لنفسه، ويكره لهم من الشر ما يكره لنفسه، ويأمرهم بما فيه الخير لهم، وينهاهم عما فيه ضررهم، ويعفو عن مساوئهم ومعايبهم، ويحرص على اجتماعهم اجتماعًا تتألف به قلوبهم، ويزول ما بينهم من الأحقاد المفضية للمعاداة والشقاق، الذي به تكثر ذنوبهم ومعاصيهم. لهذا كان الاستغفار للسابقين الأولين ولسلف هذه الأمة وأئمتها الماضين من صفات المؤمنين الصادقين: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.. فيا أيها المسلمُ: تذكر هذا المعنى الجليل وأنت تستغفر لإخوانك في الدين، أنَّك تفرحُ بأن يغفر الله لهم، وتفرح بأن يكونوا من أهل الخير والصلاح والفوز بالجنة، وبذلك سترتفع عن الأحقاد والضغائن، وستتطهر قلبَك من الغل والحقد والحسد، إذ تتمنى الخير للجميع، وتعلم أن رحمة الله واسعة: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ، وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.
- لا يوجد تعليقات بعد