شريعة رب العالمين لا شريعة المجرمين
عباد الله: إن الإسلام هو دين الله الخاتم الذي ارتضاه عز وجل للناس أجمعين ما دامت على هذه الأرض حياة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. لهذا كانت دعوةُ خاتم النبيين صلوات ربي وسلامه عليه دعوة عامة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}. لهذا كتب الله تعالى لهذا الدين والدعوة البقاء والانتشار والظهور، حتى إنه اليوم أكثر أديان الأرض انتشارًا وحصولًا على أتباع جُدُد في مشارق الأرض ومغاربها وزيادةً في أعداد منتسبيه، هذه الظاهرة التي يسمونها: نموَّ الإسلام، والمدَّ الإسلامي. فلا عجب ـ إذن ـ أن يعمد أعداء الدين الحق إلى تخويف الناس من الخطر القادم، إلى أن يجعلوا بين شعوب العالم، خاصة في أوروبا وأمريكا حواجز فكرية ونفسية تمنعهم من قبول دعوة الإسلام، بل تجعلهم خائفين من هذه الدعوة، وتجعلهم أعداء ومنافرين لهذه الدعوة.
عباد الله: إن من صور محاربة انتشار الإسلام وإقبال الناس عليه؛ تلك الحرب الإعلامية، وحملات التشويه والتحريض ضدَّ (الشريعة). ضد الشريعة الإسلامية الإلهية. حتى صارت كلمة (الشريعة) باعثة على الرعب والخوف عند غير المسلمين، وصار المسلمون يمتحنون بموقفهم من الشريعة. لقد كان مدير مدرسة إسلامية في لقاء على قناة إذاعية شهيرة، وكان موضوع اللقاء عن المدارس، لكن المدير فوجئ بسؤال مقدم البرنامج: هل تؤيد الشريعة؟ فقال له: أنا لم آتي إلى هذا اللقاء للكلام عن الشريعة. فقال مقدم البرنامج: نعم؛ ولكني عرفت من اسمك أنك مسلم فأحببتُ أن أعرف موقفك من الشريعة! نعم ـ أيها الإخوة ـ لو استمرت هذه الحملات التحريضية ضد الشريعة فسيأتي يوم تسن في أوروبا قوانين لتجريم كل شخص يؤيد الشريعة ويدعو إلى الشريعة. ذلك لأن الشريعة في أذهانهم هي تلك الصور التي يروجها الإعلام: القتل والرجم والجلد، الشريعة عندهم عقوبات وقصاص وتعذيب. ثم يصور الأمر: أن هذا حقيقة الإسلام وروحه ومقصده وغايته.
أيها المسلمون: الواجب علينا أن نعرف المعنى الصحيح للشريعة، ويكون لدينا الجواب الصحيح لكل من يريد أن يطعن في ديننا وإسلامنا وشريعة ربِّنا. وهذا موضوع وإن كان واسعًا، ويصعب شرحه في خطبة جمعة، لكني أشير إليه باختصار.
اعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أن معنى الشريعة، ومفهوم الشريعة، في القرآن والسنة، وفي استعمال الفقهاء وعلماء الإسلام لا تخرج عن ثلاثة معان. الشريعة كلمة تستخدم بثلاثة معان:
المعنى الأول: تطلق لفظ الشريعة بمعنى الدين كلِّه. فالشريعة مرادفة للدين. تقول: أنا أتبع شريعة الإسلام، أي دين الإسلام، الشريعة هي كل ما جاء به محمد من الاعتقادات والعبادات والأخلاق والمعاملات. لهذا فأهم شيء في هذه الشريعة وأصلها وأساسها: توحيد الله عز وجل، أصول الشريعة: هي أصول الإيمان: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وأركان الإسلام: الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج. فمن يريد أن نتخلى عن (الشريعة) فهو يريد أن نتخلى عند عقيدتنا وعباداتنا وأخلاقنا وجميع أحكام ديننا.
المعنى الثاني للشريعة هو القدر المشترك من دعوة الأنبياء والمرسلين. يعني الشريعة هي العقائد والأحكام التي أرسل الله بها رسله، وهي مشتركة بين جميع الرسل، لا تتغير ولا تتبدل، فالله تعالى أرسل جميع رسله ليأمروا الناس بعبادته وتوحيده بالصلاة والزكاة والصيام، ويأمروهم بالعدل والبر والإحسان وينهوهم عن الظلم والسوء والفحشاء، فوصايا الله للأمم كلها واحدة، وهي التي جاءت في سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. فهذه وصايا ربِّنا، وقد وردت بنحوها في سورة الإسراء. وهي مؤكدة ومصدقة على الوصايا العشر التي وردت في التوراة باستثناء تعظيم يوم السَّبْتِ ودعوى أنَّه يومُ الرَّاحة لأنَّ الله تعالى استراح فيه، تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا. تلك الوصايا وردت في «سفر الخروج» وفي «سفر التَّثْنية»: وهي: «لا يَكُنْ لكَ آلهةٌ أُخرَى أمامي». «لا تَصْنَعْ لك تمثالاً منحوتًا، ولا صورةً، لا تسجدْ لهنَّ، ولا تعبدْهُنَّ؛ لأَنِّي أنا الرَّبُّ إلهك». «لا تَنْطِقْ باسم الرَّبِّ إلهكَ باطلاً، لأنَّ الربَّ لا يُبْرِئُ من نطقَ باسمه باطلاً». «أَكْرِمْ أباكَ وأُمَّكَ لكي تطولَ أيَّامُكَ على الأرض التي يُعطيكَ الربُّ إلهك». «لا تقتلْ». «لا تزنِ». «لا تسرقْ». «لا تشهد شهادةَ زورٍ». «لا تَشْتَهِ بيتَ قريبكَ، ولا امرأتَه، ولا عَبْدَه، ولا أمَتَه، ولا ثَوْرَه، ولا حماره». فهذه هي وصايا التوراة التي جاء القرآن بتصديقها، وهي وصايا الله عز وجل للأمم كلها، وللناس أجمعين، وبذلك بعث جميع رسله، فأنَّى لنا، ثم أنَّى لنا أنَّ نتخلى عن شريعة رب العالمين، للأولين والآخرين، من الأنبياء والرسل والناس أجمعين، فهذا هو الدين الذين أمرنا الله بإقامته: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}. فالرسل جميعًا بعثوا بشريعة واحدة من جهة أصولها وأحكامها الكلية وإن كانت شرائع الرسل تختلف من جهة فروعها وتفاصيلها: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}.
المعنى الثالث للشريعة، هو الجانب العملي من الإسلام. الشريعة بمعنى ما يتعلق بالتكاليف العملية. لأن الإسلام فيه جانب نظري، وجانب عملي. لهذا نقول: الإسلام عقيدة وشريعة. العقيدة ما يتعلق بالعلم والقلب. والشريعة ما يتعلق بالقول الظاهر والعمل الظاهر. الإسلام: عقيدة وشريعة، علم وعمل، اعتقاد وفعل، توحيد وفقه. هذه العبارات نقصِد بها التَّمييزَ بين الجانب الاعتقاديِّ والجانب العمَلِيِّ من الدِّين، وإن كان الجانبان متلازمَيْن متداخلَيْن، لا يقومُ الدِّينُ بأحدهما دونَ الآخر. إذن الشريعة بهذا المعنى الثالث هي كل ما يتعلق بالتكاليف العملية في الإسلام، وأهم شيء في هذا وأعظمه؛ أصول التكاليف العملية، وهي الأركان الأربعة: الصلاة والزكاة والصيام والحج، فهذه هي العبادات العملية المحضة، وهي أهم أصول الإسلام بعد أصول التوحيد والعقيدة، وهي مقصودة لذاتها، وهي لب الدين وأساسه وجوهره. ويدخل في مفهوم الشريعة كل الأحكام العملية من العبادات والأخلاق والسلوك والمعاملات والحلال والحرام. ويدخل في مفهوم الشريعة العملية أيضًا: النظام السياسي والاجتماعي ونظام الحكم والقضاء وما يتبع ذلك من الحدود والقصاص والعقوبات. كل هذه من الفروع والتفاصيل الداخلة في ذلك المفهوم العظيم والواسع والكبير لكلمة الشريعة.
أيها المسلمون: فلنخرج اليوم من هذه الخطبة بهذه الفائدة. احفظوها جيدًّا بارك الله فيكم، حتى تردوا الشبهة عن دينكم، وتعلِّموا أولادكم الدين الصحيح والمفهوم الصحيح. الشريعة لها في الإسلام ثلاثة معان، أو ثلاثة استعمالات، أو إطلاقات:
أولاً: الشريعة تأتي بمعنى الدين كله. فالإسلام دين الله، وهو كله شريعة الله.
ثانيًا: الشريعة بمعنى التوحيد والعبادات والأخلاق وأحكام الحلال والحرام المشتركة في دعوة جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام.
ثالثًا: الشريعة بمعنى الجانب العملي من الإسلام، فالإسلام: علم وعمل، عقيدة وشريعة، وأهم شيء في الشريعة بهذا المعنى هي الأركان الأربعة التي هي أصول الشريعة ورأس أمرها وأهم مهماتها بعد التوحيد والاعتقاد: وهي الصلاة والزكاة والصيام والحج. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات.
الخطبة الثانية:
عباد الله! قد علمنا أن الشريعة هي الدين كله، أو هي الأحكام المشتركة في دعوة المرسلين، أو هي الجانب العملي من الدين. وبهذا نعلم أن الشريعة لا تأتي بمعنى الحدود والقصاص والعقوبات، الشريعة ليس معناها النظام السياسي والقضائي والجزائي. فهذه الأمور جزء من الشريعة، وهي من فروع الشريعة، فليست هي كلُّ الشريعة، ولا هي بالأصول الكلية والمقاصد الكلية للشريعة والنبوة والرسالة والدين، ولكنها من أحكام الشريعة التي فرضها الله على المسلمين، والتي يقيمها المسلمون ـ إن استطاعوا ـ من خلال نظام الحكم الخاص بهم، ومن خلال القضاء الشرعي، ومن خلال السلطة الحاكمة في دول المسلمين، فهي أحكام خاصة بالمسلمين في بلادهم يحكمون بها في محاكمهم وقوانينهم وأنظمتهم. وليس لأحدٍ الحقُّ في التدخل في خصوصيات المسلمين في مجتمعاتهم ودولهم. وهذا من المبادئ المقررة في النظام العالمي المعاصر، فدول الاتحاد الأوروبي ـ مثلا ـ تمنع عقوبة الإعدام، وتعتبرها منافية لحقوق الإنسان، بينما نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية وهي ترفع شعارات الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان تنفذ عقوبة الإعدام. ومع ذلك لا تُتَّهم أمريكا بالوحشية والتخلف وانتهاك حقوق الإنسان. لأن هذه القوانين من التفاصيل التي تخصُّ الشأن الداخلي والنظام الاجتماعي لكل دولة، ولا يجوز للدول الأخرى التدخل فيها.
عباد الله: إن تقزيم وتحجيم مفهوم الشريعة، وجعل معنى الشريعة هي الحدود والقصاص والعقوبات، وجعل أصول الشريعة ومقصدها وغايتها في تنفيذ أحكام القتل والرجم والجلد، هو تحريف لمعنى الشريعة، وتشويه لصورة الشريعة. إبراز الشريعة والدعوة إليها وتطبيقها؛ بأنها قطع الرؤوس وجلد الظهور وتهجير الناس وتدمير مساكنهم وتخريب ديارهم. هذه الصورة التي يبرزونها اليوم من خلال وسائل الإعلام ومقاطع اليوتيوب إنما هي حرب على الإسلام، غرضها تشويه صورة الإسلام والمسلمين، وتخويف الناس من شريعة رب العالمين. أنهم يريدون أن يصدوا الناس عن دين الله، عن دعوة الإسلام التي تنتشر في كل أرجاء الدنيا: بأن يقولوا للناس: انظروا هذا هو الدين الذي يبشِّرون، وهذه هي الشريعة التي يدينون بها: قطعُ الروؤس، وتهجير الناس، وتخريب العمران. هذه هي الرسالة التي يرسلونها للناس من خلال تصرفات الخوارج والغلاة الذي يعيثون في بلاد الإسلام فسادًا. إنهم يُستخدَمون في العالم كله لتشويه صورة الإسلام والمسلمين، وللتخويف من الشريعة، بعد أن حرَّفوا معناها ومفهومها. فيجب علينا جميعًا أن ندرك حقيقة هذه الحرب الإعلامية، حقيقة هذه التسجيلات المصورة لما يزعمون أنه تطبيق للحدود وإقامة للشريعة. إن الرسالة واضحة. إنهم يريدون أن يقولوا للعالم: انظروا إلى الشريعة، هذه هي الشريعة تطبق حيث الفقر والجوع والحرب والخراب والدمار. هذه يجب أن تكون صورة الشريعة في أذهانكم. ومن يطبِّق الشريعة؟ يطبقها المتطرفون الغلاة، الذين يتلذَّذون بقطع الرؤوس، ويعملون على تخريب العمران وتهجير الناس. هذه يجب أن تكون صورة حملة الشريعة في أذهانكم. وصدق ربنا سبحانه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.
- لا يوجد تعليقات بعد