خطبة الجمعة يوم عرفة 1435

يا عباد الله هذا يوم عظيم من أيام الله، يوم تُسكَب فيه العبرات، وتُقال فيه العثرات وتُقبَل فيه الدعوات
إنَّه يوم عرفة لعام ألف وأربعمائة وخمس وثلاثين من الهجرة النبوية، وما أدراك ما يوم عرفة، إنَّه يوم قد فضَّله الله تعالى وعظَّمه فأقسم به: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣)} [البروج]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الموعود: (يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة وما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل منه فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يدعو الله بخير إلا استجاب الله له ولا يستعيذ من شر إلا أعاذه منه) «سنن الترمذي» (3339). فقد اجتمع لكم في يومكم هذا أيُّها المؤمنون الشاهد والمشهود يوم الجمعة ويوم عرفة أما الشاهد فيوم الجمعة وهو خير أيام الأسبوع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها) «صحيح مسلم» (854). أما المشهود فيوم عرفة، وهو خير أيام التسع من ذي الحجة وأفضلها، وبعده اليوم العاشر يوم النحر وهو يوم الحج الأكبر وعيد الأضحى المبارك
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأيام عند الله يوم النحر) «سنن أبي داود» (1765).
هو يوم الحج الأكبر، وفيه من الأعمال من لا يُعمل في غيره، فللحجَّاج الوقوف بالمزدلفة، ورمي جمرة العقبة، والنحر، والحلق، وطواف الإفاضة. ولسائر المسلمين في أنحاء العالم الاجتماع لصلاة العيد وخطبته ثمَّ ذبح الأضاحي، وما يحصل بذلك من وجوه الخير والبر، والصدقة، والصلة، والإحسان.
فالله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد. عباد الله واجتمع لكم في هذا اليوم سبب ثالث من أسباب المغفرة والرحمة؛ هو الصيام، صوم يوم عرفة، عبادة عظيمة خالصة لرب العالمين، لا يراد بها رياء ولا سمعة ولا منفعة مادية أو نفسية أو صحية، بل تذلُّل وتقرُّب إلى الخالق الغني العظيم من العبد الفقير المحتاج الضعيف. فإذا كان صيامك اليوم بهذه الصفة فحريٌّ أن تُنَال به تكفير السيئات، ورفع الدرجات، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله والسنة التي بعده) «صحيح مسلم» (1162). والحديث يدلُّ بظاهره على أنَّ صيام يوم عرفة يكفِّر ذنوب سنتين ولكن ينبغي أن تعلم أخي المسلم أنَّ هذا متعلِّق بصغائر الذنوب، أما الكبائر لا يغفرها الله لك إلا بتوبة خاصة؛ كالقتل، وعقوق الوالدين، والزنا، وشهادة الزور، وأكل الربا والتعامل به. هذه الذنوب لا تكفِّرها الصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر العبادات؛ حتى تقلع منها، وتطهِّر نفسك منها، على وجه الخصوص، والله سبحانه تعالى يقبل التوبة من عباده كلِّهم، ويغفر الذنوب كلَّها، الشرك وما دونه من الكبائر، إن صدقت مع الله، وأخلصت النية لله، ورجعت إليه تائبًا {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢)} [البقرة]. والله عز وجل يناديك من فوق سبع سماوات، وهو البرُّ الرحيم، فاسمع نداءه واستجب لأمره بوعده، { قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٥٩) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١)} [الزمر]. فاللهم اجعلنا من الناجين الفائزين يوم القيامة، اللهم تقبل توبتنا، وأقل عثرتنا، واغفر ذنوبنا، واجعلنا من عتقائك في هذا اليوم العظيم، بإيماننا ويقيننا بقول نبيك صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم أكثر من ان يعتق الله فيه عبيدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء) «صحيح مسلم» (1348). فأكثروا يا عباد الله من الدعاء والاستغفار في هذا اليوم. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) «سنن الترمذي» (3585). فأكثروا من ذكر الله والاستغفار، وألحُّوا في الدعاء لأنفسكم ولوالديكم، وأقاربكم وأصحابكم وأحبائكم وسائر من أحسن إليكم ولسائر المسلمين والمسلمات. والله يغفر لنا ولكم
عباد الله: من خصائص هذا اليوم أنَّه يوم إعلان التوحيد لله عز وجل، تذكير لهذه الأمة قبل غيرها بحقيقة الرسالة المحمدية، وجوهرها في توحيد الله، والإخلاص له، والبراءة من الشرك وأهله. إنَّ كثيرًا من المسلمين في مشارق الارض ومغاربها يرتكبون مخالفات كثيرة في أمر التوحيد، فيقعون في الشرك الذي هو أعظم المحرمات وأقبحها؛ يدعون غير الله، ويستغيثون بغير الله، ويطوفون بالقبور، ويحلفون بغير الله إلى غير ذلك من عظائم الأمور، فإذا ذهب منهم من ذهب إلى الحج، أو علم بحال الحجَّاج وغيرهم، عند ذلك يسقط كلُّ شرك ووثنية، وكلُّ تعلُّق فإنَّ شعار الحج واحد، وهو التلبية وهي خالصة لله وحده: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. فلا مجال لدعوة غير الله، لا (الحسين)، ولا (العباس)، ولا (البدوي)، ولا (الرفاعي)، ولا (الجيلاني)، ولا غيرهم، إنما هي تلبية واحدة للواحد الأحد، رب السماوات والأرضين، فما أجدر بنا أخوة الايمان أن نستحضر معاني التوحيد، ونحن نشاهد من أكرمهم الله عز وجل بالحج هذه السنة، قد اجتمعوا اليوم على صعيد عرفة يرددون شعار التوحيد، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. ثم ماذا بعد هذا؟ ثم ماذا بعد هذا أخوة الإيمان؟ إنَّ من خصائص يوم عرفة أنَّه يوم المنَّة بكمال الدين وتمام النعمة، كما قال ربنا سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. وقد قال يهودي لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عن هذه الآية الكريمة: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، فقال عمر: (إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة). نعم يا عباد الله هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في عرفة، ووافق ذلك يوم الجمعة، كما اجتمع اليومان في عامنا هذا، وكان ذلك في حجَّة الوداع سنة عشر من الهجرة، وهي حجَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحيدة بعد هجرته الى المدينة، فكانت حجَّة الإسلام وحجَّة الوداع لأنَّه عليه السلام بلغ الناس شرع الله في الحج قولًا وعملًا، ولم يكن بقي من دعائم الاسلام وقواعده شيء إلا بيَّنه عليه الصلاة والسلام، فلما بيَّن لهم شريعة الحج ووضحه وشرحه، أنزل الله تعالى عليه وهو واقف بعرفة هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. وقد خطب فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوصاهم بوصايا جامعة، أكَّد على حرمة الدماء، والأموال، والأعراض، وأمر بالاعتصام بكتاب الله عز وجل، ووصى بالنساء، وأشهد الله تعالى عليهم بتبليغ الرسالة، ونحن نشهد بأنَّه قد بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين. فصلى الله على نبينا كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون، وصلى الله عليه في الأولين والآخرين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا واقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا كثيرا كما أمر، وأشكره وهو الكفيل بالزيادة لمن شكر، اعزازًا لمن آمن به وأقر وإرغامًا لمن جحد به وكفر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الى يوم الدين.
عباد الله: هذه الأيام المباركة هي أيام عيدنا أهل الإسلام، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (يوم الفطر، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب) «سنن أبي داود» (2419).
والعيد عند كلِّ أمة مرتبط بدينها، لكنَّها عندما تنسى دينها، وتضيِّع شريعتها، تتحول الأعياد إلى عادات وتقاليد موروثة، يحرص الناس على إحيائها، والاحتفال بها، إلا نحن أهل الإسلام، فديننا لا يزال محفوظًا ظاهرًا، وأعيادنا مرتبطة بأركان ديننا ارتباطًا وثيقًا، فعيد الفطر بعد إقامة ركن الصيام، وعند إقامة ركن الحج يكون العيد الاكبر عيد الأضحى المبارك، ذلك لأنَّ العيد إظهار للفرح والسرور بما منَّ الله تعالى على عباده من نعمة الايمان والإسلام، وكمال الشريعة والدين، ومعرفة الله وعبادته والاخلاص له، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)} [يونس]. فافرح أيُّها المسلم، اِفرح بهذه النعمة واعتزَّ بدينك، وافخر به بين الأمم، وكيف لا تعتز بدينك وترفع به الرأس عاليًا، وأنت تتبع دين التوحيد الخالص، فلا أوثان ولا صور ولا تماثيل ولا شفعاء ولا وسطاء بينك وبين خالقك ومولاك، وكتابه سبحانه محفوظ، وحجَّته قائمة ظاهرة، وليس دين على وجه الأرض فيه هذه الصفة إلا دين الإسلام. فالله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أخي المسلم: خير ما تفعله يوم العيد؛ أن تصلي صلاة العيد في جماعة المسلمين، ثم تخرج لذبح أضحيتك خالصة لوجه ربك، طيبة بها نفسك، فالأضحية نسك وعبادة وشعيرة من شعائر الإسلام، يقصد بها التقرُّب إلى الله عز وجل بإنهار الدم يوم النحر وأيام التشريق، فالسنَّة أن تذبح في محل إقامتك، وتأكل أنت وأهل بيتك، وتهدي وتتصدَّق بما تيسَّر، ومن الأعمال الصالحة في هذه الأيام الفاضلة: بر الوالدين، وصلة الأرحام، وإصلاح ذات البين، والعفو والمسامحة، والرحمة والتواضع، والإحسان إلى الفقراء والمحتاجين. وهذه كلها من نتائج وثمار العبادات وآثارها في نفس الإنسان وسلوكه، فإنَّ الإنسان كلَّما كان أتقى لربه وأزكى نفسًا بعبادته سبحانه وطاعته، كلَّما صار أقرب الخير والإحسان، والتواضع والسماحة والعفو. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار غدا؟ على كلِّ هيِّن ليِّن قريب سهل) «مسند أحمد» (3938). لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم اهدنا بالهدى وزينا بالتقى واغفر لنا بالآخرة والأولى.
- لا يوجد تعليقات بعد