موقع الشيخ عبد الحق التركماني - بواعث العبادة – الله غني عن عبادتنا فلماذا نعبده؟

/ 28 مارس 2024

للتواصل 00447432020200

بواعث العبادة – الله غني عن عبادتنا فلماذا نعبده؟

نشرت بواسطة : إدارة الموقع تاريخ غير محدد 3568

عباد الله: إن من الأسئلة الشائعة سؤال يتكرر كثيرًا: إن الله تعالى غني عن العباد، غني عن عبادتنا وأعمالنا، فلماذا نعبده؟ هذا السؤال ليس سؤال حديثًا، ولا وليد العصر، بل سؤال قديم خاض في الجواب عليه كثير من المتكلمين والفلاسفة، ولكن من أهم أسباب انتشاره في هذا العصر هو النزعة المادية، هو النظرة النفعية للدين، هو رضا الإنسان بالحياة الدنيا واطمئنانه إليها،.. يثار هذا السؤال ليقفز المنحرفون في أصول الدين، ليقفز أنصاف المتعلمين ودعاة السوء إلى تقديم الجواب النفعي المادي.. فيقولوا للمسلمين: إن الله غني عن عبادتكم، وإنما العبادة لمنفعتكم وفائدتكم، تعبدونه لمصلحتكم الدنيوية، فالصلاة رياضة نفسية وجسدية، والزكاة تكافل اجتماعي، والصيام صحة، والحج مؤتمر سياسي.. وهكذا يقطعون الصلة بين العباد وربهم، فلا تكون نية العابد ولا إرادته متوجهة إلا إلى العبادات والأعمال الصالحة نفسها، لمصلحة نفسه، وفائدة نفسه.. أيها الإخوة والأخوات: التفسير النفعي للدين هو الأنانية، الأنانية البراغماتية التي لا تنظر إلا إلى الذات، ومصلحة الذات، ومنفعة الذات...

فتعالوا معي إخوة الإيمان إلى رحاب الكتاب والسنة لنعلم لماذا نعبد ربنا، لماذا نعبده وهو غني عن عبادتنا؟ كما قال تعالى: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} {النمل:40}، وقال تعالى: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} {العنكبوت:6}، وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} {إبراهيم:8}، وقال تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} {آل عمران:97}، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} {النساء:131}.

إذن: الله غني عن العباد، لا يحتاج لعبادتهم، ولا يفتقر لطاعتهم، لكن مع ذلك فالعلل والأسباب الموجبة للعبادة كثيرة وكثيرة جدًّا، وهي بواعث العبادة، أي أسباب تبعث على القيام بوظيفة العبادة، هي محركات ودوافع توجه نيةَ العبد وقصده وإرادَته، فلا بدَّ من معرفتها والتفقه فيها واستحضارها، وإلا فإن الإنسان سيضيِّع معنى العبادة وغايتها، وستفسُد نيته، وتفتُر إرادته وعزيمته، وتنحرف بوصلة قلبه؛ فإن عبد الله عبده لغير الغاية التي أرادها، لغير مراد الله، وحينئذ لن يستفيد من عمله شيئًا بل يكون باطلًا محبطًا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

عباد الله: أول بواعث العبادة: أن يعلم الإنسان أن الله تعالى يستحقُّ العبادة لذاته، فهو رب العالمين؛ المتفرد بالخلق والملك والتدبير، له الأسماء الحسنى والصفات العليا، وكل هذا يوجب أن يعبده الخلق لذاته، فهذا حقه عليهم، كما قال رسول الله: (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا).

ثم الباعث الثاني: نفس وجود المخلوق، فإنه بذاته فقير محتاج إلى خالقه كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}، وهذا حال الإنسان، هو في حاجة للعبادة، فإن لم يعبد الله الذي خلقه ورزقه وأمدَّه بالنعم؛ فإنه سيعبد الحجر والشجر، وإن لم يعبد شيئًا لإلحاده فسيعبد هواه، ويذِلُّ لشهوته، ويعاني من الحيرة والاضطراب والضياع، فليس للقلب سكينة، ولا للنفس سعادة، إلا بعبادة الله وحده لا شريك له.

والفقر لي وصفُ ذاتٍ لازم أبدا ... كما الغنى أبدا وصف له ذاتي

وهذه الحال حال الخلق أجمعهم ... وكلهم عنده عبد له آتي

فمن بغى مطلبا من غير خالقه ... فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي

الباعث الثالث: لأنه سبحانه الربُّ الخالق المالك المتصرف، بيده الأمر، وإليه الحكم، وقد خلقنا لعبادته، فهو المستحق سبحانه لكمال الذل والخضوع والطاعة كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

الباعث الرابع: استحقاقه سبحانه كمال الحبِّ وذلك لكمال ذاته وكمال أسمائه وصفاته وأفعاله، والله سبحانه له الكمال المطلق التام في كل وجه، الذي لا يعتريه توهُّم نقص أصلاً، ومَن هذا شأنُه فإن القلوب لا يكون شيء أحب إليها منه ما دامت فِطَرُها وعقولها سليمة، وإذا كانت أحب الأشياء إليها فلا محالة أن محبته توجب عبوديته وطاعته، وتتبُّع مرضاته، واستفراغ الجهد في التعبد له والإنابة إليه، وهذا الباعثُ أكملُ بواعثِ العبودية وأقواها، حتى لو فرض تجرده عن الأمر والنهي والثواب والعقاب استفرغ الوُسْع واستخلص القلب للمعبود الحق المستحق لأشدِّ الحب، كمال قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}، قال رسول الله: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبُّ إليه مما سواهما. وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله. وأن يكره أن يعود في الكفر ـ بعد إذ أنقذه الله منه ـ كما يكره أن يلقى في النار» .

الباعث الخامس: نعبده سبحانه لأنه المنعم علينا بأجل النعم، والمحسن بنا أعظم إحسان، فقد خلقنا ورزقنا، ومنحنا الحياة والعقل والتمييز والسمع والبصر، فهو المستحق سبحانه لغاية التعظيم، فالعقول السليمة تشهد بأن غاية التعظيم لا تليق إلا بمن صدَر عنه غاية الإنعام والإحسان وهو الله وحده: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل: 53]، ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: 18]، والتذكير بنعم الله من البراهين القرآنية على وجوب العبادة كما قال تعالى في سورة فاطر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)} أي: كيف تُصرفون عن الحقّ بعد هذا البيان.

الباعث السادس من بواعث العبادة: القيام بواجب الشكر على نعمه المترادفة المتتابعة، فإن الإنسان الذي لا يقابل تلك النعم بالشكر جاحد للإحسان، كما قال تعالى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}، لهذا أمرنا الله تعالى بشكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}،  {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}،  {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}، ووعدنا الله تعالى بالمزيد من نعمه إن نحن قابلناها بالشكر: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}. فالشكر من أعظم بواعث العبادة،  وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه قام حتى تورَّمت قدماه. فقيل له: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبدا شكورا؟» . «وقال لمعاذ والله يا معاذ، إني لأحبك. فلا تنس أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك».

                         الخطبة الثانية:

إخوة الإيمان ثم ماذا بعد هذا؟ باعث سابع وباعث ثامن، وهما الخوف والرجاء، الخوف من عقاب الله وعذابه، والرجاء في ثوابه وحسن جزائه. وهذا من صفات أنبياء الله وعباده الصالحين كما أخبر الله تعالى عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}، وقال سبحانه: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، وبهذا أمر الله تعالى جميع عباده: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)}.

ثم باعث تاسع وباعث عاشر: عبادة الله لدخول الجنة، والنجاة من النار. وهذا أخص مما سبق، لأن المسلم يخاف الله ويرجوه في أحواله وأموره كلها، فيما يتعلق بدنياه وما يتعلق بآخرته، ومن ذلك أنه يطلب الجنة ويستعيذ من النار على وجه الخصوص، كما قال تعالى عن امرأة فرعون: {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ}، وامتدح الله {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. وقد كان رسول الله يسأل الله الجنة ويتعوذ من النار في صلاته ودعائه، وأرشدنا إلى ذلك في أحاديث كثيرة، وقد سأل فتى أنصاريًّا: ماذا تقول في صلاتك يا ابن أخي؟ فقال الفتى: أمّا أنا فأسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، ولا أفهم دندنتك ودندنة معاذ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حولها ندندن.

أيها المؤمنون: هذه هي بواعث العبادة وأسبابها وعللها، فالعبادة حق ذاتي لله عز وجل، ولأن المخلوق مفتقر مضطر إليها، نعبد الله حبًّا، وخوفًّا، ورجاءً، نعبده شكرًا على نعمه وآلائه، ونعبده طاعة لأمره، ونعبده طلبًا للجنة واستعاذة من النار، وهكذا فبواعث العبادة كثيرة، وكثيرة جدًّا، ولكن ذكرنا أهم البواعث، ولنختم بباعث يغفُل عنه كثيرٌ من الناس، وهو أن الله تعالى يحبُّ أن يُعبد ويحب أن يسأل ويحب أن يتقرَّب إليه، الله غنيٌّ عن عباده، لا يحتاج إلى عبادتهم وأعمالهم، لكنه يرضاها منهم ويحبها ويُثيبهم عليها: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}،  {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}، وأخبر النبي أن الله يفرح بتوبة عبده، فهو سبحانه يفرح بتوبة التائبين؛ ويرضى عن عباده المؤمنين. فهذا من أعظم بواعث العبادة: أن يطلب الإنسان محبة الله ورضاه وقربه. قال رسول الله: «إذا أحب الله عبدًا نادى جبريلَ: إني قد أحببت فلانًا فأحبَّه. فينادي في السماء ثم تَنْزِلُ له المحبةُ في الأرض فذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً}». اللهم اجعلنا من أهل وُدك ومحبتك ورضاك، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ من سخطك والنار.

«اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما يهون علينا مصيبات الدنيا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا» .

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد