الآخر: بين العقيدة والمعاملة

عباد الله: إنَّ الناس يختلفون في نظرهم للأشخاص، وحكمهم عليهم، وتقييمهم لهم بحسب اختلافهم في العقائد والمفاهيم والأولويات والمهمات عندهم. فبعض الناس العبرةُ عنده: بأن يكون الإنسان نافعًا في مجتمعه، مفيدًا لغيره. فميزان هذا الصنف ميزان نفعي. وبعض الناس العبرة عنده: أن يكون الإنسان حسن الأخلاق، كريم الطباع، محسنًا إلى غيره. فميزان هذا الصنف ميزان أخلاقي. وبعض الناس العبرة عنده بالمال والجمال والشكل والمظهر فميزانه مادي ظاهري. وهكذا تختلف موازين الناس، فما هو الميزان الحق للقرآن الكريم والسنة المطهرة الذي يجب على كلِّ مسلم أن يزن به الأشخاص. هذا الميزان هو التوحيد الخالص لله تعالى في العبادة، والإيمان الصحيح بدين الإسلام الحق، والعمل الصالح اتِّباعًا لما جاء به محمَّد خاتم النبيين. أمَّا الموازين الأخلاقية والنفعية والمادية فإنَّ الإسلام لم يلغها، فهي معتبرة محترمة بشرط الإيمان والعمل الصالح.
تعالوا أيها الأخوة نذكر الأدلة والشواهد على هذا الأصل العظيم:
أما أنَّ الإسلام لم يلغ الميزان الأخلاقي فهذا مما لا شكَّ فيه، كيف لا وقد قال: «إنَّما بُعِثت لأتمَّ صالح الأخلاق» «مسند أحمد» (8952)، وقيل يا رسول الله من أكرم الناس؟ قال: أتقاهم. فقالوا: ليس هذا نسألك. قال: «فعن معادن العرب تسألون خيارُهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقُهُوا» «صحيح البخاري» (3175). وقال: «ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإنَّ صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة» «سنن الترمذي» (2003). وأما أنَّ الإسلام لم يلغ الميزان النفعي؛ فهذا أيضًا لا شكَّ فيه، لأنَّ الإنسان إذا نفع الناس بماله أو علمه أو عمله أو جاهه جزاه الله عن فعله خيرًا، وإذا كان سبب ضررٍ وشرٍّ على الناس استحقَّ من الإهانة والعقوبة في الدنيا والآخرة بقدر عمله. يقول الله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء]، وقال: ألا أخبركم بخيركم من شرِّكم؟ قال: فسكتوا، فقال ذلك ثلاث مرات، فقال رجل: بلى يا رسول الله أخبرنا بخيرنا من شرِّنا. قال: «خيركم من يُرجَى خيره ويُؤمَن شرُّه، وشرُّكم من لا يُرجَى خيره، ولا يُؤمَن شرُّه» «مسند أحمد» (8812). وأما أنَّ الإسلام لم يلغ الميزان المادِّي، فهذا أيضًا مما تدلُّ عليه الشريعة، ففي قصة طالوت: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)} [البقرة]، قد قال رسول الله: «اليد العليا خير من اليد السفلى» «صحيح البخاري» (1361). و «إنَّ الله جميل يحبُّ الجمال» «مسند أحمد» (3789). لكن هذه الموازين كلَّها مشروطة بميزان التوحيد والإيمان، فكل الحسنات والفضائل والخصائص الأخلاقيَّة والعمليَّة والماديَّة والاجتماعيَّة لا قيمة لها عند الله تعالى من غير التوحيد له في العبادة، والإيمان بدينه، والاتِّباع لرسله وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم. يقول ربنا سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء]، ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)} [المائدة]، وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)} [آل عمران]، وأخبرنا الله تعالى عن مصير من كفر بدين الإسلام ومصير الأعمال التي كان يعملها: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)}[الكهف].
وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله ابن جُدْعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذاك نافعه؟ قال: «لا ينفعه، إنه لم يقل يومًا ربِّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين». أي لم يكن مصدِّقًا بالبعث، ومن لم يصدق به كافرٌ ولا ينفعهُ عمل.
قال: «والذي نفس محمَّد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثمَّ يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به؛ إلا كان من أصحاب النار» «صحيح مسلم» (153).
عباد الله: قد يتساءل بعضكم فيقول: إنَّ الله تعالى حكم عدل فما حكم من أحسن من الكفَّار؟ وكيف يكونون في مرتبة واحدة وهم متفاوتون في أعمال الخير والشر؟
فنقول: إنَّ الله حكم عدل رؤوف رحيم، لا تضيع عنده الأعمال ولا يظلم أحدًا مثقال ذرة، وأحوال الكفَّار وأعمالهم لا تخرج عن هذه الأقسام:
القسم الأول: أن يكون الكفَّار من أهل البرِّ والإحسان والأخلاق الطيبة؛ ثمَّ يسلم. فهذا يجزيه الله خيرًا على ما عمل في كفره، قال حكيم بن حزام: يا رسول الله أشياء كنت أفعلها في الجاهلية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسلمتَ على ما أسلف لك من الخير» «صحيح البخاري» (1436).
الثاني: أن يكون الكافر من أهل الفساد والشرِّ في كفره، ثمَّ يسلم، فالله يكفِّر عنه جميع ما ارتكبه في حال الكفر من الذنوب والآثام: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٧٠)} [الفرقان].
الثالث: أن يموت الكافر على كفره، لكنه لم يرتكب من الظلم والفساد والبغي غير الكفر، فهذا لا يعاقبه الله إلا على كُفره: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ (40)} [النساء]. {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
الرابع: أن يموت الكافر على كفره، ويكون قد ارتكب أعمالًا كثيرة من الفواحش والظلم والقتل والبغي على الناس وغير ذلك، فهذا يعاقبه الله تعالى على كفره، ويزيده عذابًا وعقابًا بقدر ما ارتكب من المعاصي فيزداد عذابًا على عذاب وعقوبة على عقوبة.
الخامس: أن يموت الكافر على كفره، ولكن كان من أهل البرِّ والإحسان إلى الخلق، فلم يظلم أحدًا، ولم يقتل ولم يسرق ولم يعتدِ على حقِّ أحد، بل وصل الأرحام، ورحم الضعيف، وساعد الفقراء، ورفق بالحيوانات، إلى غير ذلك من الأعمال الطيبة التي يحبها الله تعالى، لكنَّه عمل تلك الأعمال وهو كافر فلم يُرِد بها وجه الله تعالى، فهذا حكمه أنَّ الله تعالى يعجِّل له الجزاء في الدنيا، فيجزيه خيرًا في الدنيا بالصحة والعافية والمال والسمعة الطيبة، وثناء الناس عليه، فيجزيه الله تعالى في الدنيا خيرًا؛ لأنَّه لا تنفعه أعماله يوم القيامة. قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (٦٠)} [الرحمن]، وقال رَسُولُ اللَّهِ (إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِها في الدُّنْيَا ويُجْزَى بِها في الآخِرَة، وأمَّا الكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِها لِلَّهِ في الدُّنْيَا، حَتَّى إذَا أفْضَى إلى الآخِرَةِ، لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِها) «صحيح مسلم» (2808).
الخطبة الثانية:
عباد الله: هذه عقيدة المسلم في الحكم على الأشخاص، المعيار والميزان فيها هو تقوى الله تعالى، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)} [الحجرات]. أما التعامل مع الناس فله ميزان آخر، إنَّه ميزان الحقِّ والخير والعدل والإحسان، فالمسلم مهما اختلف مع الآخرين في الاعتقاد والديانة، والنحلة والملة، فالواجب عليه دائمًا وأبدًا معاملة الناس جميعًا بالحسنى قولا وعملا، وبالأخلاق الطيبة، فالإسلام لا يبيح الكذب والغش والغدر والخيانة بسبب المخالفة في الدين. يبني بين بني البشر علاقةً أساسها البر والإحسان: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨)} [الممتحنة]. أَنْ تَبَرُّوهُمْ: البر كلمة جامعة لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال، وهي تستعمل في أشرف العلاقات وأوثقها بين المخلوقين، آلا وهي علاقة الأولاد بوالديهم، لهذا يقال: برُّ الوالدين. أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ: القسط هنا بمعنى العطاء والصلة، وبمعنى العدل، ثمَّ يبيِّن الله تعالى أنَّ حُسن المعاملة مع غير المسلم عمل صالح يتقرَّب به المسلم إلى الله فينال رضاه ومحبته: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. وإذا ساءت العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين واشتدَّت العداوة؛ فلا بدَّ أن يبقى ميزان العدل، فالله حرَّم الظلم على نفسه، وجعله محرمًا بين عباده مهما اختلفت أديانهم وعقائدهم ومللهم. ضابط العلاقة في أقل الأحوال بل في أسوأ الأحوال: العدل، نعم؛ يأمرنا ربنا بالعدل حتى في حال الحرب والمواجهة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٨)} [المائدة]، ومن شروط إقامة العدل: الامتناع عن الظلم والاعتداء مهما كانت الدواعي والمسوِّغات، حتى في ميدان الحرب: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠)} [البقرة]، ويقول سبحانه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}. هذا ما أمر الله به أصحاب رسول الله، رغم أنهم مُنعوا من المسجد الحرام ظلمًا وعدوانًا، ومع ذلك فالله ينهاهم عن الاعتداء، ويختم الآية بهذا التهديد الشديد والوعيد الأكيد: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة].
أيها المؤمنون: هذا هو الفرق بين مقام العقيدة، ومقام المعاملة، وقد ضلَّ في هذا الأمر كثير من الناس، وهم على طرفي النَّقيض: فطائفة مفرِّطة تريد أن تثبت تسامحها واعتدالها فتسارع إلى التكذيب بأصول الدين ونقض عُرى الإسلام، فيزعمون أنَّ اليهود والنصارى ليسوا كفَّارًا وأنَّهم ناجون يوم القيامة. والطائفة الأخرى مفْرِطة غالية متطرِّفة، قد استحكمت في عقولها الجهالة والحماقة، لا يفرِّقون بين العقيدة والشريعة، ولا بين الدِّين والمعاملة، ولا بين العبادات والمعاملات، يعتقدون أنَّ الإسلام جاء بالذَّبح والقتل والإبادة الجماعية لكلِّ الأمم والشعوب التي لا تدين بدين الإسلام.
والحقُّ بين الغالي فيه والجافي عنه، الحقُّ أبلج والباطل لجلج. الحقُّ ما قال الله وما قال الرسول، لا ما يدَّعيه أهل الأهواء والآراء ولا ما يرتكبه أهل الغلو والإجرام. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠)} [النحل].
- لا يوجد تعليقات بعد