قد جئتكم بالذبح

عباد الله: لقد امتنَّ الله على البشرية بهذا الدين الخاتَم، الذي تكفَّل بحفظه من التحريف والتبديل، وجعله حجَّته الظاهرة على الناس أجمعين حتَّى قيام الساعة، فكتابه أشرف الكتب، ورسوله أكرم النبيين عليهم الصلاة والسلام، وشريعته أكمل الشرائع وأصلحها لكلِّ زمان ومكان، فهو دين الحقِّ والخير والكمال والجمال كما قال ربنا عزَّ من قائل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. فلا عجب في أن يُقبِل على هذا الدِّين العقلاء المنصفون، ويحظى بالاهتمام ويتميَّز بسرعة الانتشار والتوسُّع في هذا العصر بين سائر الأديان. ثمَّ لا عجب أيضًا أن يسعى أعداؤه في صدِّ الناس عنه، ويبذلوا غاية جهدهم في طمس حقائقه، وتشويه سمعته، وتنفير الناس عنه، وهي سنَّة ماضية في الصِّراع بين الحقِّ والباطل، لكن الغلبة للحقِّ والهدى كما قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)} [التوبة].
عباد الله: وإنَّ من أشدِّ الناس إساءة إلى هذا الدِّين الحقِّ، وأشدَّهم ضررًا عليه، وأعظم إعانة لأعدائه وحجة لهم في حربهم له، ودعايتهم ضدَّه؛ الجهَّال والضلَّال من المسلمين ومن المنتسبين إلى الإسلام، الذي يتكلَّمون باسمه، يقرؤون كتابه، ويعملون ببعض أحكامه، لكنَّهم يحرفون حقائقه، ويشوِّهون صورته، وينفِّرون الناس عنه، بقصد أو بغير قصد، يعملون بغير علم، ويتصرَّفون بغير هدى، ففيهم شَبَهٌ من الذين قال الله تعالى فيهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (١٠٤)} [ الكهف].
وإنَّ من أعظم صور ذلك التحريف والتشويه لدين الإسلام؛ ما يقومون به من اختزال هذا الدِّين العظيم، وتقزيمه، في بعض الأحكام الجزئية، والوقائع المحصورة، فيبحثون في القرآن والسنَّة والسيرة النبوية عن عبارة محدَّدة أو حادثة معيَّنة فيجعلونها شِعارًا لدعوة الإسلام، وترجمانًا لمنهاجه، وإعلانًا لمبادئه وأخلاقه، ولا يختارون في ذلك إلا ما يناسب طباعهم الشريرة الغضبية من سفك الدماء وقطع الرؤوس وترويع الآمنين وخراب العمران.
نعم إخوة الإيمان هذه هي قصة تلك الكلمة المروِّعة التي صرنا نقرؤها في صفحات التواصل الاجتماعي كثيرًا، وتطرق أسماعنا من خلال نشرات الأخبار أو دعايات الغلاة، ألا وهي: (لقد جئتكم بالذبح)، (جئناكم بالذبح)، لقد أشاعوا هذه الكلمة بين الناس، وترجموها إلى مختلف اللغات العالمية، حتى رسخت في أذهان الكبار والصغار، المسلمين وغير المسلمين، المنصفين والأعداء، أرادوها شِعارًا لدعوة محمَّد صلى الله عليه وسلم، وشعارًا لمنهاج النبوَّة الذي يدَّعوه اتِّباعه كذبًا وزورًا.
أهكذا كانت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهكذا كان منهاجه، أهكذا كانت سيرته، إلى هذا كان يدعو، وبهذا كان يبشِّر؟ وبهذه الكلمة كان ينادي ويجهر: (لقد جئتكم بالذَّبح)، (لقد جئتكم بالذَّبح)؟
فيا لله! أيعقل أن يقول هذا خاتم النبيين، وإمام المرسلين الذي قال عنه ربُّه عزَّ وجلَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧)} [الأنبياء]؟! أيقول هذا البشير النذير والسراج المنير كما وصفه ربُّه القدير بقوله الحقِّ المبين: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٤٥) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (٤٧) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (٤٨)} [الأحزاب]. سبحان الله! جمعت هذه الآيات منهاج النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته كاملًا، من أوله ومبتدئه، حتى آخره ومنتهاه، هذه الآيات من سورة الأحزاب، وسورة الأحزاب مدنيَّة بإجماع العلماء، أي أنَّها نزلت في المدينة، بعد أن صارت للمسلمين دولة وقوَّة، ومع ذلك يقول الله تعالى لنبيه: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (٤٨)} [الأحزاب]. لم يقل له: اذبحهم! ولا قال له هدِّدهم وقل لهم: جئتكم بالذَّبح!
لقد علمنا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديثه الصحيحة أنَّه كان يقول للناس: (قولوا لا إله الله تفلحوا). وعلمنا علمًا يقينيًّا أنَّه لما فتح مكَّة بعد تلك السنوات الطويلة من ظلم قريش وآذاهم وإخراجهم له ولأصحابه من ديارهم في مكَّة ومصادرتهم لأموالهم وقتلهم لجماعة من أعزِّ الناس وأحبِّهم إليه، مثل عمه حمزة رضي الله عنه.. ورغم ذلك كلِّه، لما صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعزَّ جنده، وأنعم عليهم بدخول مكة أعزَّةً فاتحين، ماذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام؟ هل نادى في الناس: (لقد جئتكم بالذبح)؟! وكان ذلك أنسب الأوقات للذبح؛ أن ينتقم القوي المنتصر الغالب من الذي ظلمه وبغى عليه وأخرجه من وطنه وحارب دعوته ودينه. لكن ماذا فعل نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم؟ لقد أمَّن أهل مكَّة وأمر أن يُنادى في الناس: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه داره فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد) «سنن أبي داود» (3022)، آمنين مطمئنين، لا ذبح، ولا قطع رؤوس، ولا إفساد في الأرض. فمن أين جاء الغلاة المتطرِّفون بهذه الكلمة؟ وما قصة هذه الكلمة التي أشهرها المفسدون في الأرض من خوارج العصر؟ فإمَّا أن تكون هذه الكلمة كذبًا واختلاقًا وافتراء على نبي الرحمة؟ فالقرآن يكذِّبها، والسنَّة تكذِّبها، والسيرة وحقائق التاريخ تكذِّبها. وإما أن تكون لهذه الكلمة قصة محددة، ومناسبة معينة، وسبب خاص، فحرفوها، واستعملوها في غير موضعها. وأصحاب القلوب القاسية أسرع الناس إلى تحريف الحقائق: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}.
الخطبة الثانية:
فلنستمع يا عباد الله لقصة هذه الكلمة: هذه الكلمة (لقد جئتكم بالذبح) لم يقلها رسول الله ـ فيما نعلم من أحاديثه وسيرته ـ إلا مرَّة واحدة خلال ثلاث وعشرين سنة من دعوته المباركة، قالها في موقف لا يناسب إلا أن يقولها، ولكلِّ مقام مقال، فهي كلمة تدلُّ على الحزم والعزم، وحسن الجواب، وهي من دلائل نبوته.
الواقعة رواها الإمام أحمد وابن حبان وغيرهما عن عروة بن الزبير قال: (قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: ما أكثر ما رأيتَ قريشًا أصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهر من عداوته؟ [التابعي الإمام عروة بن الزبير يسأل شيخه الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما: عن أشدِّ الوقائع التي شاهدها من إيذاء مشركي قريش للنبيِّ الكريم، فيجيبه عبد الله]: حضرتُهم، وقد اجتمع أشرافهم يومًا في الحِجْر [يعني: كان كبار قادة قريش جالسين عند الكعبة]، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قطُّ، سفَّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرَّق جماعتنا، وسبَّ آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا. قال عبد الله: فبينما هم كذلك، إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي، حتى استلم الرُّكن [جاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليطوف بالكعبة، فاستلم الركن، أي بدأ بالحجر الأسود]، ثم مرَّ بهم طائفًا بالبيت [مرَّ النبيُّ بأولئك الجالسين عند الكعبة]، فلما أن مرَّ بهم غمزوه ببعض ما يقول [يعني: استهزؤوا بالنبي وعابوه، وهكذا يفعل المعاندون المستكبرون: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ}]، قال عبد الله: فعرفتُ ذلك في وجهه [يعني: لقد أثَّرت فعلتهم وكلمتهم في النبيِّ صلى الله عليه وسلم فتألَّم وتأسَّف، والنبيُّ بشر يتأثَّر بما يسمع: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}، ومع ذلك يقول عبد الله]: ثم مضى رسول الله [أي استمر في طوافه]، فلما مرَّ بهم الثانية، غمزوه بمثلها، فعرفتُ ذلك في وجهه، ثمَّ مضى، ثمَّ مرَّ بهم الثالثة، فغمزوه بمثلها، [إذن النبي يطوف حول الكعبة ثلاثَ مرات، فكلما مرَّ بأولئك الجالسين من طواغيت قريش؛ يستهزؤون به ويعيبونه ويثيرون غضبه، لكنَّه يصبر ويحلِم ويستمرُّ في طوافه، لكن للصبر حدود كما يقال، ولا بدَّ من جواب هؤلاء السفهاء، وإسكاتهم، فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، لقد وقف عليهم] فقال: (تسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمَّد بيده، لقد جئتكم بالذَّبح). قال عبد الله: فأخذتِ القومَ كلمتُه، حتى ما منهم رجل إلا كأنَّما على رأسه طائِرٌ واقع، حتى إنَّ أشدَّهم فيه وَصاةً قبل ذلك، ليَرْفَؤُه بأحسن ما يجد من القول [أي: يهدِّئُه ويحاول إصلاح الموقف]، حتى إنَّه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، انصرف راشدًا، فوالله ما كنت جهولًا) «مسند أحمد» (7036).
سبحان الله! انظروا يا عباد الله إلى صبر رسول الله وحلمه، وإلى عقله وحكمته صلى الله عليه وسلم، لم يردَّ عليهم بالسُّباب والشتائم، ولم يخرجه الغضب إلى الصياح وسوء التصرُّف، بل قال كلمة تأديب، وترهيب، وتنبيه وتحذير: لقد جئتكم بالذَّبح! فتنبَّهوا إلى حالهم، وعلموا أنَّ الأمر جدٌّ لا هزل، وخافوا من ذلك الوعيد أن يتحقَّق فيهم، فأخذتهم الرهبة والخوف، فتأدَّبوا معه، وترفَّقوا، وبدؤوا بتسكينه وتهدئته بأحسن الكلام، وفي بعض الروايات أنَّ أبا جهل هو الذي قال له: انصرف يا أبا القاسم، انصرف راشدًا، فوالله ما كنت جهولًا. هذا هو الحديث كما ورد في كتب السنَّة، ليس فيه أنَّ النبي كان يقول للناس: (لقد جئتكم بالذَّبح)، لكنَّها كلمة في واقعة معيَّنة، لأناس مخصوصين، أرأيتم ـ يا إخوة الإيمان ـ كيف تُحرَّف الحقائق، وتُشوَّه صورة الإسلام، إنَّ مثل من يزعم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس: (لقد جئتكم بالذَّبح) مثل الذي يحكي أنَّ الله قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} ثمَّ لا يكمل الآية: {وَأَنْتُمْ سُكَارَى}، ومثل الذي يزعم أنَّ الله أخبر: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} ولا يتمُّ وصفهم: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}.
عباد الله: إنَّ هذه الكلمة من دلائل صدق نبوته. فقد قالها رسول الله في أول دعوته، وهو مُستضعَف في مكَّة، ليس له قوَّة ولا سلطان، ثمَّ دارت الأيام، وأظهر الله دينه، ونصر نبيَّه، فإذا بأولئك الطواغيت المستكبرين المستهزئين قد خرجوا لقتاله في بدر، لم يخرج هو لقتالهم، ولا تمنَّى لقاءهم، لكنَّهم بادروا إلى قتاله، فأمكن الله منهم، وحقَّق الوعيدَ فيهم، فوقف رسول الله على جثتهم في بدر، بعد قتلهم بثلاثة أيام، فنادى: (يا أبا جهل ابن هشام، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، يا أمية بن خلف، هل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًّا). فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، تنادي قومًا قد جيَّفوا منذ ثلاثة أيام؟ فقال: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، إلا أنهم لا يستطيعون أن يجيبوني) «مسند أحمد» (12020). فاللهم إنَّا نشهد أنَّك أنت الحقُّ، ونبيُّك حقٌّ، ووعدك حقٌّ، ولقاؤك حقٌّ، والجنة حقٌّ، والنار حقٌّ، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنك تبعث من في القبور.
- لا يوجد تعليقات بعد