كفى بالموت واعظاً

عباد الله: نحن اليوم مع آية من كتاب الله فيها أربع حقائق كُبرى، ومعاني عُظمى، ينبغي على العاقل ألا يجهلها أو يتجاهلها، ولا أن يغفل أو يتغافل عنها، فألقوا سمعكم أيها المؤمنون لكلام ربِّكم حيث يقول عزَّ من قائلٍ في سورة آل عمران: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)}. أول هذه الحقائق أنَّ {كلُّ نفسٍ ذائقة الموت}، ولا شكَّ أنَّ كلَّ نفس ستموت، يعرف هذا كلُّ أحدٍ بالحسِّ والمشاهدة، فما الحاجة إلى ذكر هذه الجملة وتكرارها في ثلاثة مواضع من كتاب الله وما فائدتها؟! أمَّا الحاجة إليها: فلأنَّ النفس البشرية تغفُل عن الحقائق الكبرى، حتى لو كانت حسيَّة مشاهَدة، تغفل عن خالقها وبارئها، فينشغل الإنسان بالخلق عن الخالق، وبالنعمة عن المنعم، وبالرزق عن الرازق؛ فإذا ضاق صدره، واشتدَّت ضلالته؛ ذهب يبحث عن دلائل وجود الله عزَّ وجلَّ في جدليات المنطق، وقوانين الفيزياء، ونتائج المختبر؛ وكأنَّه يبحث عن غائب، أو يستكشف مجهولًا، وهو الذي دلَّت على وجوده وقيوميته وقدرته وعلمه وحكمته السمواتُ والأرض ومن فيهنَّ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠)} [آل عمران]. فيا عجبًا! كيف يُعصى الإله؟! أم كيف يجحده الجاحد؟! ولله في كلِّ تحريكة علينا وتسكينة شاهد، وفي كلِّ شيء له آية تدلُّ على أنّه واحد. وهكذا يغفل الإنسان أو يتغافل عن النهاية التي تنتظره، والمصير الذي يسير إليه، يعيش في الدنيا وكأنَّه مخلَّد فيها، رغم أنَّ آلافًا من بني جنسه يغادرونها كلَّ ساعة. لهذا كان من منهج القرآن ومنهج النبي التذكير بالحقائق الكبرى، والتركيز عليها، بالأدلَّة والحُجج، والتذكير والموعظة، والترغيب والترهيب، البيان والتذكير بحقِّ الله تعالى أن يُعبد ولا يشرك به شيء، وبالموت، وبالقبر، وبالبعث والنشور، والجنَّة والنار. فما أشدَّ حاجتنا إلى الصلة بهذه الحقائق كلَّ يوم، وكلَّ ساعةٍ، في مختلف الأحوال؛ حتى لا نكون من الغافلين عن المصير والمآل، ولا نطغى ونستكبر، وننشغل بملذَّات الدنيا ومغرِياتها، وبهذا أوصانا النبي الكريم فقال: (أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ) يَعْنِي الْمَوْتَ «سنن ابن ماجه» (4258). ثمَّ ما بعد هذا أيها الإخوة: جاء التذكير بالموت في هذه الآية بعد أن ذكر معاندة الكفار للنبي وتكذيبهم له، ولا شكَّ أنَّ هذا يُؤلم الرسول، ويكدِّرُ نفسه، فجاءت هذه الموعظة، فيها ترهيب وإنذار للمكذبين المعاندين، وفيها تسلية وتصبير وتثبيت للرسول وأتباعه المؤمنين: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران]. إذن: النهاية التي تجمعكم نهاية واحدة؛ يستوي فيها كلُّ أحد، المؤمن والكافر، القوي والضعيف، الظالم والمظلوم، المصلح والمفسد: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء]. فكفى بالموت واعظًا لكلِّ عاقل أن يُراجع نفسه، ويتواضع للحقِّ، ويستعدَّ لما بعد الموت، لهذا ذكر الله الحقيقة الثانية: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران]، فهذه الدار، دار فانية زائلة، ليست دار جزاء، ولا دار عدل، ولا يمكن أن تُقام فيها المدينة الفاضلة، والمجتمع النموذجي، بل هذه الدار دار ابتلاء وامتحان، دار اختبار ومحنة، لهذا يقع فيها الظلم والبغي والفساد، فقد منح الله فيها الإنسان إرادة واختيارًا وقوة وقدرة، لتُقام الحجَّة عليه، ويُثاب على اعتقاداته وأعماله، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (٢) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (٣)} [الإنسان]. نعم؛ الآخرة هي دار الحساب والجزاء، هي دار الحقِّ والعدل والإنصاف: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (٧٠)} [الزمر]. فإذا تمَّ الحساب، وأقيم العدل؛ جُزيت كلُّ نفس بما كسبت، بدأت الحياة الأبدية الخالدة، التي لا نهاية لها ولا نفاد: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦)} [الواقعة]. سبحان ربِّنا العظيم، سبحانه وتعالى وتقدَّس أن يخلقنا عبثًا، ويتركنا همَلا، بل خلقنا لغاية عظيمة: أن نعبده ونوحِّده، وأعدَّنا للحياة الأبدية، ودعانا للفوز الأبدي: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧)} [الأنعام]. إنَّها دار السلام، فهي سليمة من الظلم والفساد، ومن المحن والآفات، ومن الأوجاع والأسقام، ومن الضغائن والأحقاد، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (٤٧) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (٤٨)} [الحجر]. نعم والله، إنَّها دار السلام، هي المدينة الفاضلة، المدينة الطيبة الطاهرة، فما أشدَّ حماقة من يُمنِّي نفسه في هذه الدنيا بالسعادة في دار الابتلاء، والعدالة في دار الظلم، والصلاح في دار الفساد، والتكافل الاجتماعي في دار المحنة بالطبقية واختلاف المراتب في الأموال والأنفس والعقول والسلطة والقدرة وفرص الحياة، حكمة بالغة من العزيز الحكيم: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١)} [النحل].
عباد الله: إنَّ مثل الدنيا والآخرة، مثل مدينة عظيمة زاهية، أمر الملك ببنائها على أحسن تخطيط، وأجمل صورة، فكلَّما تجولت في أحيائها وطرقها وأزقتها بهرك ما رأيت من حسن البناء الدالِّ على العلم والإرادة والقدرة والحكمة، فإذا بك تأتي إلى حيٍّ واحدٍ في هذه المدينة العامرة، فتجد فيها الحال على خلاف ما رأيت في سائر أحياء المدينة، وجدت فيها خللًا واضطرابًا وفسادًا، فلا بدَّ أن تقول في نفسك، بلا شكٍّ ولا تردُّد: إنَّ الملك العظيم الذي بنى هذه المدينة، وقام عليها، ترك هذا الحيَّ على هذه الحال لغاية في نفسه، وإلى وقت معلوم، وإنه لا بدَّ سيصلحه ويقيمه على نظامه، فلا يعجز عن هذا الجزء اليسير وهو صاحب هذا الملك العظيم. فالله عز وجل ـ ولله المثل الأعلى ـ قد خلق هذا الكون كلَّه وسيَّره على هذا النظام الدالِّ على كمال علمه وحكمته وقدرته: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (٤)} [الملك]. ثم خصَّ هذه الحياة الدنيا للإنس والجنِّ، بأن جعلها حياة ابتلاء وامتحان: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}، وسيأتي اليوم الذي تعاد الأمور إلى نصابها: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٧)} [غافر]. وهذه هي الحقيقة الثالثة: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}، أما الحقيقة الرابعة: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} أي حقيقة هذه الدنيا مثل كلِّ متاع لا بقاء له، كالقدور والقوارير وأثاث البيت، يستعملها الإنسان سنة أو سنوات، ثمَّ تتلف فيرميها، و{الغرور} الخَدْع والترجية بالباطل، فالحياة الدنيا وكلُّ ما فيها من الأموال فهي متاع قليل تخدع المرء وتمنيه الأباطيل. قال رَسُول الله فَقَالَ: (إِنَّه لم يكن نبيٌّ قبل إِلَّا كَانَ حَقًا عَلَيْهِ أَن يدلَّ أمَّته على خير مَا يُعلمهُ لَهُم، وَيُنْذرهُمْ شَرّ مَا يُعلمهُ لَهُم، وَإِنَّ أمَّتكُم هَذِه جُعل عَافِيَتهَا فِي أَولهَا، وسيصيب آخرهَا بلاءٌ وأمورٌ تنكرونها، وتجيء الْفِتْنَة فيزلق بَعْضهَا بَعْضًا، وتجيء الْفِتْنَة، فَيَقُول الْمُؤمن: هَذِه مهلكتي ثمَّ تنكشف، وتجيء الْفِتْنَة فَيَقُول الْمُؤمن: هَذِه هَذِه، فَمن أحب أَن يُزحزح عَن النَّار وَيدخل الْجنَّة فلتأته منيَّته وَهُوَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر، وليأت إِلَى النَّاس الَّذِي يحبُّ أَن يُؤْتى إِلَيْهِ) «صحيح مسلم» (1844).
الخطبة الثانية:
عباد الله: قد أظلَّكم شهر كريم، هو شهر شعبان لهذه السنة، سنة ستٍّ وثلاثين وأربع مئة وألف، فجدِّدوا فيه التوبة والإنابة، واستعدُّوا لرمضان، فقد كان رسول الله يُكثر من الصيام في هذا الشهر ويقول: (ذلك شهر يغفُل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين ، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم) «سنن النسائي» (2357). قال ابن رجب رحمه الله: (ولما كان شعبان كالمقدِّمة لرمضان شُرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقِّي رمضان وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن). قال سلمة بن كهيل: كان يقال: شهر شعبان شهر القرَّاء. وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القرَّاء. وكان عمرو بن قيس المُلَائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرَّغ لقراءة القرآن. فهذا فضل شهر شعبان، فأنيبوا فيه إلى الله، وأكثروا من الاستغفار والإنابة إليه، واحذروا من العبادات المبتدعة التي لم تَرِد في السنة، مثل تخصيص ليلة النصف من شعبان بصلوات بصلاة ونهارها بصيام، أو قراءة القرآن والدعاء بصيغ مخصوصة، فكلُّ ذلك من البدع المحدثة، وفي السنَّة الصحيحة من الصلاة والصيام وقراءة القرآن والدعاء والاستغفار ما فيه غنية وكفاية.
- لا يوجد تعليقات بعد