حب الدنيا وظاهرة الإلحاد

عباد الله: تعالوا معي اليوم نتدارس آيتين من سورة الكهف، هذه السورة العظيمة التي يقرأها ملايين المسلمين كلَّ جمعة في مشارق الأرض ومغاربها، لما ورد في ذلك من الفضيلة
ولا شك أنَّ المقصود من التلاوة هو الفهم والتدبر، ثم العمل والتطبيق. يقول ربنا سبحانه:
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (٤٥) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (٤٦)} [الكهف]. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: يقول الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم أصلًا ولمن قام بوراثته بعده تبعًا، اضرب للناس مثل الحياة الدنيا ليتصوروها حقَّ التصور، ويعرفوا ظاهرها وباطنها، فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية، ويُؤثِروا أيهما أولى بالإيثار. وأنَّ مثل هذه الحياة الدنيا، كمثل المطر، ينزل على الأرض، فيختلط نباتها، تُنبِت من كلِّ زوج بهيج، فبينا زهرتها وزخرفها تسرُّ الناظرين، وتُفرِح المتفرجين، وتأخذ بعيون الغافلين، إذ أصبحت هشيمًا تذروه الرياح، فذهب ذلك النبات الناضر، والزهر الزاهر، والمنظر البهي، فأصبحت الأرض غبراء ترابًا، قد انحرف عنها النظر، وصدف عنها البصر، وأوحشت القلب، كذلك هذه الدنيا، بينما صاحبها قد أعجب بشبابه، وفاق فيها على أقرانه وأترابه، وحصَّل درهمها ودينارها، واقتطف من لذته أزهارها، وخاض في الشهوات في جميع أوقاته، وظن أنه لا يزال فيها سائر أيامه، إذ أصابه الموت أو التلف لماله، فذهب عنه سروره، وزالت لذَّته وحبوره، واستوحش قلبه من الآلام وفارق شبابه وقوته وماله، وانفرد بصالح أو سيء أعماله، هنالك يعضُّ الظالم على يديه، حين يعلم حقيقة ما هو عليه، ويتمنَّى العود إلى الدنيا، لا ليستكمل الشهوات، بل ليستدرك ما فرط منه من الغفلات، بالتوبة والأعمال الصالحات، فالعاقل الجازم الموفق، يعرض على نفسه هذه الحالة، ويقول لنفسه: قدري أنَّكِ قد مُتِّ، ولا بدَّ أن تموتي، فأي: الحالتين تختارين؟ الاغترار بزخرف هذه الدار، والتمتُّع بها كتمتُّع الأنعام السَّارحة، أم العمل، لدار أكلها دائم وظلها، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذُّ الأعين؟ فبهذا يُعرَف توفيق العبد من خذلانه، وربحه من خسرانه. ولهذا أخبر تعالى أنَّ المال والبنين، زينة الحياة الدنيا، أي: ليس وراء ذلك شيء، وأنَّ الذي يبقى للإنسان وينفعه ويسرُّه، الباقيات الصالحات، وهذا يشمل جميع الطاعات الواجبة والمستحبَّة من حقوق الله، وحقوق عباده، من صلاة، وزكاة، وصدقة، وحجٍّ، وعمرة، وتسبيح، وتحميد، وتهليل، وتكبير، وقراءة، وطلب علم نافع، وأمرٍ بمعروف، ونهيٍ عن منكر، وصلة رحم، وبرِّ والدين، وقيامٍ بحقِّ الزوج والزوجة والأولاد، وجميع وجوه الإحسان إلى الخلق، كل هذا من الباقيات الصالحات، فهذه خير عند الله ثوابًا وخير أملًا فثوابها يبقى، ويتضاعف على الآباد، ويؤمل أجرها وبرَّها ونفعها عند الحاجة، فهذه التي ينبغي أن يتنافس بها المتنافسون، ويستبق إليها العاملون، ويجد في تحصيلها المجتهدون، وتأمل كيف لما ضرب الله مثل الدنيا وحالها واضمحلالها ذكر أن الذي فيها نوعان: نوع من زينتها، يتمتَّع به قليلا ثمَّ يزول بلا فائدة تعود لصاحبه، بل ربَّما لحقته مضرَّته وهو المال والبنون ونوع يبقى وينفع صاحبه على الدوام، وهي الباقيات الصالحات.
عباد الله: هذا هو مثل الحياة الدنيا في سورة الكهف، ومن نظر في كتاب الله عزَّ وجلَّ سيجد أنَّ الله تعالى كرَّر لعباده هذا المثل، ونبَّههم عليه في مواضع عديدة، لعلَّهم يتفكَّرون ويتَّعظون ويستعدُّون ليوم المعاد. فقال تعالى في سورة يونس: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥)}. وفي سورة العنكبوت: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤)}. فالله تعالى يذكِّر عباده بأنَّ هذه الحياة الدنيا عابرة زائلة محدودة قصيرة، يريد بذلك أن يرغِّبهم في الحياة التامَّة الدائمة التي لا حدَّ لها ولا نهاية.
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)} [آل عمران].
عباد الله: إذا كانت هذه حقيقة الحياة الدنيا، وهذه هي أهميتها ومنزلتها بالنسبة للدار الاخرة، فلا جرم أنَّ القرآن الكريم لم يأتِ إلا بالتحذير من الاغترار بها، وإلا بذمها والتقليل من شأنها، وذم طلابها والعاملين لها، وأنها لم تأتي إلا بالأمر بالزهد فيها، وعدم التنافس عليها، وعدم الفرح بزخرفها، ومكتسباتها الخادعة. ولا جرم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد أكَّد على هذه المعاني، وفصَّل في بيانها تفصيلا تاما بقوله وعمله وسلوكه. فتدبَّروا يا عباد الله كتاب ربكم، واتَّخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتكم في الزُّهد في الدنيا، والإعراض عنها، وعدم التنافس فيها، فهذا من أعظم الأسباب الحاملة بعون الله على التشمير للآخرة، والتنافس في الأعمال الصالحة، والمسابقة في الخيرات. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشكره وهو الكفيل بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله: ذُكر عن عيسى ابن مريم عليه السلام أنَّه كان يقول: (حبُّ الدنيا أصل كلِّ خطيئة). ذلك أنَّ حبَّ الدنيا يؤدِّي الى الانشغال بها، والاهتمام بتفاصيلها، ولا يكون ذلك إلا على حساب القيام بحقِّ الله تعالى في عبادته وطاعته، وذكره وانشغال القلب بتعظيمه، وذلك يؤدِّي إلى الغفلة عن الآخرة والمصير الأبدي، وما هذا إلا من صفات الكفار الغافلين عن الاخرة،
كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (٧) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨)} [يونس]. وكما قال: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}. فما أصدق تلك الكلمة العظيمة حبُّ الدنيا أصل كلِّ خطيئة، فإنَّ الرضا بالحياة الدنيا، والاطمئنان والحرص عليها، من أعظم أسباب الكفر والإلحاد والغفلة عن الله تعالى والدار الاخرة. إنَّما يُسمَّى اليوم بظاهرة انتشار الإلحاد، وتأثر كثير من الشباب بالأفكار الإلحادية ما هو إلا بسبب الانغماس في الدنيا، والانشغال بالماديات. الإلحاد الحديث ليس إلحادًا فلسفيًا، بل هو بالدرجة الأولى إلحاد الشهوات، وإلحاد الانشغال بالماديات، إلحاد الانهماك بتفاصيل الحياة. ومن هنا فإنَّ من أهم وسائل مكافحة الإلحاد، وتقديم الأجوبة المقنعة للشباب الحائر؛ هو منهج القرآن الكريم في بيان حقيقة هذه الحياة الدنيا، والغاية من الخلق، ومهمة الإنسان في هذه الدار، دار الابتلاء، دار الامتحان، دار الاختبار والتمحيص، دار العبور إلى الدار الآخرة {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢)} [الملك]. أمَّا ما يقوم به كثير من الدعاة اليوم من تزيين الدنيا، والحثِّ عليها، وتحريف الخطاب الإسلامي؛ بجعل هذه الدنيا هي الأمل، وهي المستقبل، والسعادة، واختلاق وظائف للدين لا أصل لها، ولم يأتِ الدين من أجلها، مثل عمارة الأرض، وإقامة العدل التام، والسعادة التامة، والعيش الهنيء الرغيد، على طريقة أفلاطون والمدينة الفاضلة، فلا شكَّ أنَّ هذه الوعود الكاذبة من أهم أسباب الإلحاد، والشعور بالفشل، والإحباط، واليأس، خلافًا لمنهج القرآن الكريم، المنهج القرآني الذي يعد بالآخرة لا بالدنيا، ويبشِّر بالحياة الدائمة لا بالحياة الزائلة، ويرغِّب بما عند الله لا بما عند الناس، ويخبر أنَّ الدار الآخرة هي المدينة الفاضلة، ففيها العدل المطلق، والحقِّ المطلق، والخير المطلق، ومن كان فيها من أهل الفوز والنجاة، فهو من أهل السعادة المطلقة، والنعيم التام، {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣)} [القصص]. اللهم اجعلنا من أهل التقوى، آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.
- لا يوجد تعليقات بعد