أخص خصائص دين الإسلام

عباد الله: اِعلموا أن أخص خصائص دين الإسلام هو إخلاص العبادة لله تعالى اعتقادا وقولا وعملًا. فتوحيد الله عز وجل بالعبادة هو الغاية التي من أجلها خلق الله الجن والإنس، كما قال سبحانه: {َمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)} [الذاريات]، لهذا لم يأمر الله تعالى عباده إلا بإقامتها، كما قال سبحانه: {وَما أُمِروا إِلّا لِيَعبُدُوا اللَّهَ مُخلِصينَ لَهُ الدّينَ حُنَفاءَ وَيُقيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دينُ القَيِّمَةِ (٥)} [البينة]. وللأمر بإفراده بالعبادة أرسل الله عز وجل رسله، فأخبر الله تعالى عن رسله الكرام نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم عليهم الصلاة والسلام أنهم جميعا قالوا لأقوامهم: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}. وقال تعالى عن وظيفة الرسل الكرام على وجه العموم: {وَما أَرسَلنا مِن قَبلِكَ مِن رَسولٍ إِلّا نوحي إِلَيهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلّا أَنا فَاعبُدونِ (٢٥)} [الأنبياء]. أما خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام فقد بدأ دعوته أيضا بهذا، فقال لقومه: (أيها الناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) «مسند أحمد» (16603). وأمره ربه العظيم أن يعلن عن حقيقة دينه ودعوته جلية واضحة فقال سبحانه: {قُل يا أَيُّهَا النّاسُ إِن كُنتُم في شَكٍّ مِن ديني فَلا أَعبُدُ الَّذينَ تَعبُدونَ مِن دونِ اللَّهِ وَلكِن أَعبُدُ اللَّهَ الَّذي يَتَوَفّاكُم وَأُمِرتُ أَن أَكونَ مِنَ المُؤمِنينَ (١٠٤)} [يونس]. وقال عز من قائل في بيان الغاية من إنزال القرآن على خاتم الأنبياء والمرسلين: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢)} [هود].
عباد الله: العبادة هي العلاقة بين العبد الضعيف المخلوق الفقير والرب العظيم الخالق الغني، فمن العبد لربه كمال المحبة وكمال الذل والخضوع والافتقار وخالص القصد والتوجه، ومن الله لعبده المحبة والرضى والقبول والخير والرحمة في الدنيا والآخرة، وتتمثل هذه العلاقة في أجلى صورها، وأعظم مراتبها في الدعاء، فالدعاء هو حقيقة العبادة ولبها وجوهرها، لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة ثم قرأ صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَقالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَستَجِب لَكُم إِنَّ الَّذينَ يَستَكبِرونَ عَن عِبادَتي سَيَدخُلونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ}» «مسند أحمد» (18352). ووجه استشهاد النبي بهذه الآية الإبدال فيها بين كلمتي الدعاء والعبادة، فقال تعالى أولا: ادعوني استجب لكم، وقال ثانيا: إن الذين يستكبرون عن عبادتي. ولم يقل: عن دعائي، كما هو مقتضى سياق الكلام، فدل ذلك على أن الدعاء هو العبادة.
وفي هذه الآية بيان العلاقة التي أشرنا إليها، فمن العبد التوجه الى الله بالدعاء، ومن الله تعالى الاستجابة، لأنه سميع الدعاء، رحيم بعباده، كريم حيي، يستحي أن يرفع العبد إليه يديه بالدعاء فيردهما صفرا.
قال الإمام الخطابي رحمه الله: "معنى الدعاء استدعاء العبدِ ربَّه عز وجل العنايةَ، واستمدادُه منه المعونة، وحقيقته إظهار الافتقار إلى الله تعالى، والتبرّؤ من الحول والقوة، وهو سمة العبودية واستشعارُ الذلة البشريَّة، وفيه معنى الثناء على الله عز وجل، وإضافة الجود والكرم إليه، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة».
عباد الله: إذا علمنا أن الدعاء بهذه الأهمية البالغة والمكانة العالية، وأن معنى العبادة التي هي غاية الخلق وأصل الدين راجع إلى الدعاء؛ فلا عجب بعد هذا أن نعلم أنَّ الله تعالى قد بين هذه الأهمية في كتابه العزيز أجلى البيان وأوضحه، فهو أهم موضوعات القرآن وأعظم مقاصده بالبيان والتقرير والمحاججة والرد على المخالفين فيه.
فالله تعالى يرغب عباده في دعائه ويعدهم بالاستجابة فيقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)} [البقرة].
ويبين أن استجابة الدعاء من خصائصه سبحانه، لأن رب السماوات والأرض والمتفرد فيهما بالحكم والتصرف والتدبير: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٦٢)} [النمل].
ويقيم الحجة الفطرية والعقلية على المشركين الذين يدعون غير الله في الرخاء لكنهم في حال الكرب والشدة يتواضعون للحقيقة الكبرى فيفردون الله بالدعاء: {قُل مَن يُنَجّيكُم مِن ظُلُماتِ البَرِّ وَالبَحرِ تَدعونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفيَةً لَئِن أَنجانا مِن هذِهِ لَنَكونَنَّ مِنَ الشّاكِرينَ (٦٣)} [الأنعام].
وقال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (٤١)} [الأنعام].
وقال عز وجل: {وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحرِ ضَلَّ مَن تَدعونَ إِلّا إِيّاهُ فَلَمّا نَجّاكُم إِلَى البَرِّ أَعرَضتُم وَكانَ الإِنسانُ كَفورًا (٦٧)} [الإسراء].
وفي سورة فاطر يذكر الله تعالى آياته وآلاءه في خلق الإنسان والبحار وما فيها من التسخير والمنافع للناس ثم يقول عن نفسه المقدسة: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)}.
وفي سورة لقمان: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢)}.
وفي سورة الحج: {يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاستَمِعوا لَهُ إِنَّ الَّذينَ تَدعونَ مِن دونِ اللَّهِ لَن يَخلُقوا ذُبابًا وَلَوِ اجتَمَعوا لَهُ وَإِن يَسلُبهُمُ الذُّبابُ شَيئًا لا يَستَنقِذوهُ مِنهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالمَطلوبُ (٧٣)}.
وفي سورة الزمر: {وَلَئِن سَأَلتَهُم مَن خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ لَيَقولُنَّ اللَّهُ قُل أَفَرَأَيتُم ما تَدعونَ مِن دونِ اللَّهِ إِن أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَل هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَو أَرادَني بِرَحمَةٍ هَل هُنَّ مُمسِكاتُ رَحمَتِهِ قُل حَسبِيَ اللَّهُ عَلَيهِ يَتَوَكَّلُ المُتَوَكِّلونَ (٣٨)}.
فقد أقام الله تعالى الحجة على عبادة بوجوب إفراده سبحانه بالدعاء، خاطب عقولهم بما أظهره في هذا الكون من بدائع آياته، وخاطب فطرهم بما غرس الله تعالى فيها من معرفته سبحانه والاضطرار إليه والتواضع والانكسار بين يديه، وخاطب حواسهم بما يدركون بها من انتفاء صفات السمع والبصر والتصرف والاستجابة من الأصنام والأوثان والقبور والأموات.
لهذا فإن دعاء غير الله تعالى هو الباطل: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ ما يَدعونَ مِن دونِهِ هُوَ الباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبيرُ (٦٢)} [الحج].
ودعاء غير الله تعالى هو الضلال الأكبر: {لَهُ دَعوَةُ الحَقِّ وَالَّذينَ يَدعونَ مِن دونِهِ لا يَستَجيبونَ لَهُم بِشَيءٍ إِلّا كَباسِطِ كَفَّيهِ إِلَى الماءِ لِيَبلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الكافِرينَ إِلّا في ضَلالٍ (١٤)} [الرعد].
ودعاء غير الله تعالى اتباع للهوى: {قُل إِنّي نُهيتُ أَن أَعبُدَ الَّذينَ تَدعونَ مِن دونِ اللَّهِ قُل لا أَتَّبِعُ أَهواءَكُم قَد ضَلَلتُ إِذًا وَما أَنا مِنَ المُهتَدينَ (٥٦)} [الأنعام].
ودعاء غير الله تعالى هو الشرك الأكبر: {فَإِذا رَكِبوا فِي الفُلكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخلِصينَ لَهُ الدّينَ فَلَمّا نَجّاهُم إِلَى البَرِّ إِذا هُم يُشرِكونَ (٦٥)} [العنكبوت].
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
عباد الله: لما كان توحيد الله تعالى بالدعاء هو أخص خصائص دين الإسلام، كان أيضا أخص صفات الموحدين لرب العالمين، من الأنبياء والمرسلين، وأتباعهم المؤمنين، وقد ذكر الله تعالى عنهم دعائهم له رغبا ورهبا، تضرعا وخفية، وذكر نماذج من أدعية الرسل عليهم الصلاة والسلام فيها صدق التوجه إلى الله تعالى مع المحبة والتعظيم والإجلال والخوف والرجاء، وقال لنبيه عن الصحابة الكرام: {وَلا تَطرُدِ الَّذينَ يَدعونَ رَبَّهُم بِالغَداةِ وَالعَشِيِّ يُريدونَ وَجهَهُ}. فهذا من أخص صفات المؤمنين الذين لا يدعون مع الله إلها آخر، أما المشركون فمن أخص صفاتهم أنهم يدعون غير الله تعالى، يستغيثون بالمخلوق وينسون الخالق، قلوبهم متعلقة بغير الله، وألسنتهم تلهج بذكر الآلهة والأنداد والشفعاء والأموات من دون الله، وقد انتكست عقولهم وفطرهم كما أخبر ربنا عنهم: {وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحدَهُ اشمَأَزَّت قُلوبُ الَّذينَ لا يُؤمِنونَ بِالآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذينَ مِن دونِهِ إِذا هُم يَستَبشِرونَ (٤٥)} [الزمر].
ولو تأملتم يا عباد الله حال الأمم اليوم على وجه الأرض، فلن تجدوا فيها أمة تخلص العبودية لله، وتفرده سبحانه بالدعاء، وتلجأ إليه في السراء والضراء، وتكفر بالشفعاء والأنداد والأموات، فتوحيد الدعاء والعبادة أخص خصائص هذه الامة الإسلامية المحمدية، فلا يقف مسلم بين يدي ربه في صلاته إلا وفرض عليه أن يقول: إياك نعبد واياك نستعين. نعبدك فلا نعبد أحداً معك ونستعين بك فلا نستعين بأحد سواك فمن دعا غير الله، واستغاث بالأموات، وطلب العون والمدد منهم، ولجأ إلى قبورهم ومشاهدهم، فقد نقض عروة الإسلام، وأبطل أصل التوحيد، وفارق الموحدين في أخص صفاتهم، ووافق أصل دين المشركين وصار منهم، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم.
فيا أخا الإسلام استحضر نعمة الله تعالى عليك بالهداية على التوحيد الخالص، حافظ عليه، عظمه بقلبك وبقولك وبعملك، وعلمه غيرك، وأخلص العبودية لله بصدق اللجوء إليه، والدعاء له، والاستغاثة والاستعانة به، وإنزال حوائجك بك سبحانه وتعالى، تكن من أولياء الله السعداء الفائزين. {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)} [الأعراف].
- لا يوجد تعليقات بعد