موقع الشيخ عبد الحق التركماني - تفسير الفاتحة - الرحمن الرحيم

/ 30 كانون الأول 2024

للتواصل 00447432020200

تفسير الفاتحة - الرحمن الرحيم

نشرت بواسطة : إدارة الموقع 18 تشرين الأول 2019 1399

عباد الله: نحن اليوم مع سورة من سور القرآن؛ هي ركن من أركان الصلاة، لا تصحُّ صلاة مسلم بدونها، فلكم أن تتصوروا كم مرة تُقرأ هذه السورة المباركة وتكرَّر على ألسنة المسلمين في جميع بقاع الأرض؟ لا شك أنها تقرأ كل يوم ملايين المرات، أو مليارات المرات، لا يحصي عدد ذلك إلا ربُّ العالمين الذي أَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا. نعم؛ إنها سورة الفاتحة، وسورة الحمدِ، هي أمُّ الكتاب، وأمُّ القرآن، والسبعُ المثاني، والوافيةُ، والكافيةُ، والشافيةُ. فيا عبدَ الله: إن سورةً جعلها الله تعالى بهذه المنزلة؛ حريٌّ بالمسلم أن يتدبر آياتِها، ويعرف معانيها، ويدرك مقاصدَها. ونحن اليوم مع آية من آياتها، وهي الآية الثانية: (الرحمنُ الرحيمُ). الرحمن الرحيم: اسمان جليلان من أسماء الله الحسنى، يدلان على اتصافه سبحانه بصفة الرحمة في اسمه وذاته وفعله عزَّ وجلَّ، فهو الرحمن: أي هو المتَّصفُ بالرحمة الواسعة؛ لأن فَعْلان في اللغة العربية تدل على السعة والامتلاء، كما يقال: رجل غضبان، إذا امتلأ غضبًا. وهو الرحيم، أي الراحم، فهو المتصف بالرحمة في أفعاله، فيجتمع من (الرحمن الرحيم) أن رحمة الله واسعة فهو (الرحمن) المتصف بصفة الرحمة على وجه الجلال والكمال والجمال، وأنها واصلة إلى الخلق فهو (الرحيم) بهم كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}.

معاشر المصلين: إننا نردِّدُ كل يوم، في صلاتنا، وفي خارج صلاتنا، مرات ومرات كثيرة إيمانًا ويقينًا بأن الله: {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}، فأليس من الواجب علينا نستحضر رحمة الله الواسعة في جميع الأوقات والأفعال، ونعلم أن الله تعالى أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وهو أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا، وقد تجلت رحمته في الكون والآفاق والأنفس، حتى إنه قرن استواءه على العرش بذكر اسمه (الرحمن)، ففي سورة طه: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرش اسْتَوَى}، وفي سورة الفرقان: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}. إن ما أخبر الله تعالى به من استوائه على عرشه، يدل على عظمته وقوته وعزته وجلاله، وهذا يملأ القلوب خوفًا وخشيةً، فذكر الله في هذا الموضع المهيب الجليل اسمه الكريم (الرحمن)، ليعلم عباده أن ربَّهم في علوه المطلق، وقدرته المطلقة، وعزته البالغة، هو ذو الرحمة الواسعة، فرحمته وسعت كل شيء، ورحمته هي الغالبة والسابقة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضَى الله الخلقَ كتب في كتابٍ فهو عنده فوقَ العرش: إنَّ رحمتي غلبت غضبي).

فرحمته عامة على الخلق كلهم، خلقهم فأحسن خلقهم وأمدهم بالحياة والرزق والمال والولد وسخر لهم خيرات الأرض. حتى الذين يكفرون به، ويدعون له الولد، ويتخذون من دون شركاء: يعافيهم ويرزقهم ويمتعهم، فإذا تابوا تقبل توبتهم، وغفر ذنوبهم: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}. فلا سبيل إلى اليأس من رحمة الله مهما اشتدت الابتلاءات والمصائب، ومهما كثرت الذنوب والمعايب: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}.

والرحمن الرحيم سبحانه يتفضل على عباده المؤمنين برحمة خاصة في الدنيا والآخرة: فيهديهم ويصلح بالهم ويثبت قلوبهم ويتقبل أعمالهم ويدخلهم الجنة برحمته: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}.

عباد الله: ومن مظاهر رحمة الله أنه سبحانه لم يخلقنا عبثًا، ولم يتركنا هملًا، بل أرسل إلينا الرسل، وأنزل الكتب، لتهتدي عقولنا، وتطمئن قلوبنا، وتنفذنا من سبل الضلال والاختلاف والشقاق؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}. وقال سبحانه: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، وقال: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. فالذين يقبلون هذه الهداية، ويُقبلون على هذه المائدة المباركة ينعمون بالرحمة الواسعة في الدنيا والآخرة: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}.

ومن مظاهر رحمة الله تعالى أن بعث إلينا نبيًّا ورسولًا كريمًا، جعل الرحمة من صفاته صلى الله عليه وسلم، فهو الرحيم في دعوته وأخلاقه، هو الرحيم مع أصحابه وأعدائه، فالرحمة صفة جامعة لرسالته: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾، وبهذا امتنَّ الله على عباده حين قال سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}. وقد تجلت هذه الرحمة في سيرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وسننه وآدابه، فكانت سجيةً فطريةً، ونموذجًا تربويًّا، وسلوكًا عمليًّا، بصنع الله تعالى وتأديبه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}.

ومن مظاهر رحمة الله بعباده: أنه يقبل توبتهم، ويغفر ذنوبهم، ويتجاوز عن مسيئهم، مهما عظمت جنايتهم، وقبحت أفعالهم، لأن الله تعالى لا يريد لهم إلا الهداية والخير: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. لهذا يفرح الله تعالى بتوبة العبد كما أخبر النبيُّ وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، حتى اشتد عليه الحر والعطش، أو ما شاء الله. قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده». لهذا فإن باب التوبة مفتوح للجميع في جميع الأوقات والأحوال، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها). نسأل الله تعالى أن يرحمنا برحمته الواسعة، ويتوب علينا، إنه هو التواب الرحيم.

الخطبة الثانية

معاشر المسلمين: إذا كنا نعتقد أن ربنا هو الرحمن الرحيم، وأن رسولنا بعث رحمة للعالمين، وأن الرسالة الإسلامية جاءت هدى ورحمة للمؤمنين، أفليس من الواجب علينا أن نتمثل هذه الرحمة في أقوالنا وأعمالنا، في أخلاقنا وسلوكنا، في جميع تعاملاتنا مع الأهل والأولاد والأقرباء والأصدقاء والموافقين بل حتى مع المخالفين والأعداء، أليس من الواجب علينا ونحن نردد كلما وقف بين يدي ربنا: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم) أن نشيع هذه الرحمة بين الناس جميعًا، فالله هو الرحمن الرحيم، ذو الرحمة الواسعة، يحب أن نتصف بهذه الصفة، كما قال رسول الله: (الرَّاحمونَ يرحمُهُمُ الرَّحمنُ، ارحَموا من في الأرضِ يرحَمْكم من في السَّماءِ). وتأملوات حضور معنى الرحمة في سلوك النبي حيث قبَّل الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التَّميمي جالسًا، فقال الأقرع: إنَّ لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ قال: «من لا يَرحم لا يُرحم».

قال بعض العلماء: ندب صلى الله عليه وسلم إلى الرَّحْمَة، والعطف على جميع الخلق من جميع الحيوانات، على اختلاف أنواعها في غير حديث، وأشرفها الآدمي، وإذا كان كافرًا، فكن رحيمًا لنفسك ولغيرك، ولا تستبد بخيرك، فارحم الجاهل بعلمك، والذَّليل بجاهك، والفقير بمالك، والكبير والصغير بشفقتك ورأفتك، والعصاة بدعوتك، والبهائم بعطفك، فأقرب النَّاس من رحمة الله أرحمهم بخلقه، فمن كثرت منه الشفقة على خلقه، والرَّحْمَة على عباده، رحمه الله برحمته، وأدخله دار كرامته، ووقاه عذاب قبره، وهول موقفه، وأظله بظله إذ كل ذلك من رحمته. وقد قال رسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تنزع الرَّحْمَة إلَّا من شقيٍّ)).

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: إن رحمة العبد للخلق من أكبر الأسباب التي تنال بها رحمة الله، التي من آثارها خيرات الدنيا، وخيرات الآخرة، وفقدها من أكبر القواطع والموانع لرحمة الله، والعبد في غاية الضرورة والافتقار إلى رحمة الله، لا يستغني عنها طرفة عين، وكل ما هو فيه من النِّعم واندفاع النقم، من رحمة الله. فمتى أراد أن يستبقيها ويستزيد منها، فليعمل جميع الأسباب التي تنال بها رحمته، وتجتمع كلها في قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}، وهم المحسنون في عبادة الله، المحسنون إلى عباد الله. والإحسان إلى الخلق أثر من آثار رحمة العبد بهم). جعلني الله وإياكم من الراحمين المحسنين، ومن المرحومين المقبولين عند رب العالمين.

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد