موقع الشيخ عبد الحق التركماني - الإلحاد ووظيفة الدين

/ 21 تشرين الثاني 2024

للتواصل 00447432020200

الإلحاد ووظيفة الدين

نشرت بواسطة : إدارة الموقع 15 تشرين الثاني 2019 1718

عباد الله: إن الإلحاد المعاصر خطَّتُه وعمدتُه هو إلقاء الشبهات، وإثارة الشكوك، وتكثير الأسئلة، وقلب الحقائق، في الوقت الذي يعجز فيه عن تقرير الحقّ، وتقديم الأجوبة، والأخذ بيد الإنسان الحائر إلى سبيل الهدى والرشاد. ومن أهم القضايا التي يثيرها الإلحاد المعاصر؛ قضية وظيفة الدين في الحياة، فما كان من وظيفة الدين شغَّب عليه وراوغ وعاند، وما لم يكن من وظيفة الدين ادعاه على الدين وألزم به وبالغ في الهجوم والتشنيع، ومن هنا فإن فهم المسلم لوظيفة الدين على الوجه الصحيح من أهم المحصنات ضد شبهات الملاحدة وتلبيستاهم.

أيها المسلمون: اعلموا أن الله تعالى قد شاء بعلمه وحكمته وعدله ورحمته أن يجعل حياة آدم وذريته على وجه هذه الأرض، وهيَّأ لهم أسباب المعيشة من العقل والتمييز وصحة القوى والحواس، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، وجعل جنس بني آدم مكرمًا ومفضلًا على جميع من في الأرض من الحيوان: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}، لهذا سخَّر لهم ما في الأرض من الخيرات والوسائل والأسباب، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، وهذا التكريم والتفضيل. هذه الميِّزات والخصائص. هذا التسخير والتهيئة. إنما هو لجميع بني آدم، المؤمنِ والكافر، الصالحِ والطالحِ، العادل والظالم. الجميع يأخذ حظَّه من هذه الحياة الدنيا وما فيها الأرزاق والنِّعم والخيرات. وجعل الله تعالى الناس على درجات متفاوتة في عقولهم ومداركهم وقواهم وإمكانياتهم، فيكون في ذلك ابتلاء وامتحان واختبار لهم، قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ، نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ـ ليستخدم بعضهم بعضا فيسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل، فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش هذا بماله، وهذا بأعماله، فيلتئم قوام أمر العالم ـ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)}. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، فالله تعالى قد رفع بعض الناس على بعض في مختلف الخصائص والنعم والأرزاق: في الأموال، والأبدان، وطبائع النفوس، وقوة العقول، كل ذلك إنما هو للابتلاء والاختبار؛ {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}. هنا تظهر أهمية الدين، ووظيفة الدين، حيث يمضي الإنسان في رحلته الابتلائية الامتحانية الشاقة في حياته الأرضية، فيأتي الدين ليأخذ بيده إلى طريق الهدى والرشاد، الذي فيه صلاح معاشه في الدنيا، وفوزه ونجاته في الآخرة. لقد جاء البيان الإلهي بهذا من أول يوم أمر فيه آدم عليه السلام بالإقامة المؤقتة على وجه الأرض، بيَّن الله تعالى ذلك في سورة البقرة فقال: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وبيَّنه في سورة طه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}.

إذن هذه هي وظيفة الدين، إنها الهداية التي تحفظ الفطر والعقول، وترشد بني آدم إلى مراد ربِّهم وخالقهم منهم، حتى يسلموا من الضلال في الدنيا، والشقاء في الآخرة. وبهذا بُعث خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله عليه وعليهم الصلاة والسلام: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}.

عباد الله: الوحي الإلهي والدين الحقِّ يهدي الناس في الاعتقادات والعبادات والسلوك والأخلاق والاجتماع. أما في الاعتقادات: فيعرفهم بربهم وخالقهم وإلههم الحق، حتى يؤمنوا به ويعظموه ويعبدوه ويطيعوه ويتبعوا شريعته، يعرِّفهم: من أين جاؤوا؟ ولما جاؤوا؟ وإلى أين يمشون؟ وما مصيرهم بعد الموت الذي لا مهرب لأحد كائنًا من كان منه. وفي العبادات: يهديهم إلى التوحيد الخالص، فلا يعبدون غير الله تعالى، ولا يعبدونه إلا بما شرع لهم، فيسلمون من الخضوع للأصنام والأوثان والطواغيت وسائر المخلوقات، ومن البدع والخرافات والجاهليات. وفي الأخلاق والسلوك: يأمرهم بالعدل والإحسان وإيتاء ذوي القربى وينهاهم عن الفحشاء والمنكر والبغي، فيجاهدون أنفسهم في الأخذ بمعالي الأخلاق التي يأمر الله بها ويحبها ويرضاها، وفي مجانبة مساوئ الأخلاق التي ينهى الله عنها ويكرهها ولا يرضاها. هكذا تبنى النفوس الكبار. هكذا يصنع المؤمنون الصالحون والمؤمنات الصالحات الذين امتدح الله صفاتِهم في كتابه، فمن ذلك من في آخر سورة الفرقان حيث قال سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} إلى آخر السورة. وقال تعالى في بيان مظاهر الهداية في الاعتقاد وفي العبادة وفي الأخلاق والسلوك على المؤمنين الصادقين: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}.

عباد الله: هذه وظيفة الدين، هداية الإنسان في عقيدته، وفي عبادته، وفي أخلاقه وسلوكه، ويعجز الإلحاد عجزًا كاملًا عن أن يقدم بدائل أو تجارب أو حتى أجوبة نظرية في هذه المجالات.

ففي مجال العقيدة غاية أمر الملحد أن يردد قول شاعرهم إليا أبو ماضي:

جئت، لا أعلم من أين، ولكنّي أتيت

ولقد أبصرت قدّامي طريقًا فمشيت

وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيت

كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟

لست أدري!

لكنَّا ولله الحمد ندري ونعلم: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.

وفي مجال العبادة: يعجز عقل الملحد عن تفسير نزوع الإنسان العصري إلى عبادة الأصنام والأوثان. أليس يزعمون أن العبادة من مظاهر الخوف من الطبيعة والجهل بأسرارها؟ فقد تعلمت كثير من الأمم واكتشفت كثيرًا من أسرار الكون والطبيعة، لكن تجد العالم الفيزيائي أو الكيمائي الذي أعطاه الله عقلًا وسمعًا وبصرًا ونطقًا إذا خرج من مختبره يذهب إلى المعبد ليقف خاشعًا أمام صنم لا يعقل ولا يسمع ولا يرى ولا يتكلم. وهذا امبراطور اليابان الجديد، امبراطور الشعب الذكي المتعلم المبدع: اعتكف الليلة الماضية في معبد آلهة الشمس. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ.

أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهل الإيمان والصبر والجنة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

أما مجال الأخلاق؛ فهو ميدان إفلاس الإلحاد إفلاسًا تامًّا، فجميع الناس يعلمون أنه لا قيمة للأخلاق بدون الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر، لهذا اشتهرت مقولة: "إذا كان الإله غير موجود فكلّ شيء مباح"، نعم؛ فما قيمة العدل والصبر والتسامح والبذل والإحسان وبر الوالدين ورحمة الضعيف والمحتاج؟ لهذا نجد الفيلسوف الملحد جان بول سارتر يعترف بهذه المشكلة قائلا: "يجد الوجودي حرجًا بالغًا في ألّا يكون الله موجودًا، لأنه بعدم وجوده تنعدم كل إمكانية للعثور على قيم في عالم واضح". إن الملحد لا يعرف سبب وجوده، ولا يعرف الغاية من وجوده، ولا يعرف حكمة الله في الاختبار والامتحان، فكيف يعرف قيمة الأخلاق؟

عباد الله: استمعوا وأنصتوا لهذه الآيات من كتاب الله في وصف عباد الله المؤمنين، ليعلم الناس أن لو اجتمع الملاحدة كلهم لما استطاعوا أن يرتقوا بالإنسان إلى هذه الدرجة الربانية، إلى هذا السمو الأخلاقي الذي يرفعه إليه الإيمان: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا}.

عباد الله: وإذ يعجز الإلحاد أن يقدِّم بديلًا للدين، وعن القيام بوظيفة الدين الحقِّ في الاعتقاد والعبادة والأخلاق؛ يقفز إلى ما هو ليس من وظيفة الدين، فيتكلم عن الفقر والمرض والطبقية والظلم الاجتماعي وعن الحروب والصراعات بين بني البشر، وكل ذلك من قضاء الله وقدره، ومما ارتكبه الإنسان وفعله عندما تنكب عن الصراط السوي... وتفسير هذا في الإسلام واضح لا غموض فيه، خلاصته: أن هذه حقيقة الحياة الدنيا، فهي دار الابتلاء والامتحان والاختبار، فلا بدَّ فيه من المصائب والمعايب، فتظهر فائدة ذلك بالإيمان والصبر والاحتساب: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}. لهذا لم يكن من منهج الرُّسل عليهم الصلاة والسلام في دعوة أقوامهم أن يعدوا الناس بالمكاسب المادية، والحظوظ الدنيوية العاجلة، لم يعدوهم إلا بما عند الله تعالى يوم القيامة من الفوز والنجاة والنعيم المقيم، أما الدنيا فالله تعالى يعطيها لمن يحب، ولمن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا لمن يحب: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا *كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}.

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد