تفسير سورة الفاتحة: الحمد لله رب العالمين
عباد الله: إن سورة الفاتحة في الدرجة العليا من الأهمية والمكانة بين سور القرآن، فهي فاتحة الكتاب، وأم الكتاب، وهي الشافية الكافية، تشتمل على مجمل معاني القرآن في معرفة الخالق وإخلاص العبودية له، والاستعدادِ للقائه يوم الحساب والجزاء، ومسالكِ الناس حول هذه الأمور التي خلقوا من أجلها. وجميعُ سور القرآن وآياته بمثابة الشرح والتفصيل لهذه السورة. لهذا تميَّزت هذه السورة بأن تلاوتها ركن في كل ركعة من ركعات الصلاة، التي هي أعظم أركان الإسلام العملية، فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فحريٌّ بكل مسلم أن يعتني بتفسير هذه السورة وفهمها والتأمل في معانيها، ولا يقول: إن معانيها واضحة معروفة، نكررها كل يوم مرات ومرات. فإن ما يتكرر من أصول العقيدة وأحكام الشريعة يحتاج لمزيد عناية واهتمام من كل مسلم، بخلاف ما لا يتكرر، ولا يحتاج إليه المسلم إلا نادرًا. لهذا جعلتُ تفسير هذه السورة في سبع خطب، أتكلم في كل خطبة في تفسير آية من آياتها، ومن الله تعالى أستمد العون والتوفيق.
ونحن اليوم مع قول الحق سبحانه: {الحمد لله رب العالمين}، هذا مبتدأ هذه السورة العظيمة بعد أن يستعيذ المسلم من الشيطان الرجيم ويسمي الله تعالى، فإذا قرأ: (الحمد لله رب العالمين) بدأ صلته بالله، ومناجاتَه لله بالثناء على الرب العظيم بالحمد.
عباد الله: الحمد في كلام العرب معناه: الثناء الكامل، والألف واللام أي التعريف: (الحمد لله) لاستغراق جنس الحمد وأنواعِه، فالحمد كله لله؛ فهو سبحانه يستحق الحمد بأجمعه؛ إذ له الأسماء الحسنى والصفات العلا. والحمد أخصُّ من الشكر، لأن الحمد باللسان فقط لمن يستحق الحمد سواء أنعم عليه المحمود بنعمة أو لم ينعم، والشكر يكون باللسان وبالفعل والتصرف مقابل نعمة المنعم.
أيها المؤمنون: المسلم عندما يحمد ربه، فإنه يفعل ذلك بدافع المحبة والتعظيم والإجلال لخالقه المستحق للثناء الكامل، ولو كان القلب خاليًا من التعظيم والمحبة فالثناء مجرد مدح، أما الحمد ففيه المحبة والتعظيم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الحمد ضد الذم، والحمد خبر بمحاسن المحمود مقرون بمحبته، والذم خبر بمساوئ المذموم مقرون ببغضه، فلا يكون حمد لمحمود إلا مع محبته، ولا يكون ذم لمذموم إلا مع بُغضه، وهو سبحانه له الحمد في الأولى والآخرة. وأول ما نطق به آدم: الحمد لله رب العالمين، وآخر دعوى أهل الجنة أن: الحمد لله رب العالمين، وأول مَن يدعى إلى الجنة الحمادون، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم صاحب لواء الحمد، آدمُ فمن دونه تحت لوائه، وهو صاحب المقام المحمود الذي يَغبِطه به الأولون والآخرون؛ فلا تكون عبادة إلا بحب المعبود، ولا يكون حمد إلا بحب المحمود، وهو سبحانه المعبود المحمود.
عباد الله: ربنا سبحانه استحق الحمد كله لكماله المطلق، لكماله في ذاته المقدسة، وكماله في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وكماله في أفعاله، وكماله في أوامره ونواهيه. فالعبد عندما يحمد ربه: فهو يقر بكمال ربه المطلق، هذا موجب لمحبة الحق سبحانه وتعظيمه، فلو كان في شيء من صفاته أو أفعاله نقص وعيب، لما استحقَّ الحمد والثناء بالجميل الكامل، ولما استحقَّ أن يُعبد. فالحق سبحانه يستحق الحمد في كل حال وعلى كل حال، لأن الحمد استحقاق ذاتي له، كما أنه يستحق الحمد في أفعاله وأحكامه، بخلاف المخلوق الذي قد تحمده اليوم على فعل من أفعاله، وتشكره على إحسانه وعطائه، لكنه يقطع عندك الإحسان والعطاء فتسكت عنه، وقد تتقلب الأحوال معه فيظلمك ويتجاوز على حقك فتبدأ بذمه والقدح فيه، أما الحق سبحانه فهو المستحق للحمد ولو منعك وابتلاك بالفقر والجوع والمرض، لأن جميعَ أفعالِه قائمةٌ على صفات المقدسة من العلم والحكمة والعدل والرحمة، لهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يسره قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا رأى ما يسؤوه قال: الحمد لله على كل حال.
عباد الله: أضاف الله تعالى الحمد لاسم الجلالة الأعظم: (الله): (الحمد لله)، أي: لِ الله، فاللام للاختصاص، والاستحقاق، فالحمد المطلق خاصٌّ بالله تعالى لا يتسحقه إلا هو، والله اسم ربنا عزَّ وجلَّ؛ لا يسمى به غيره؛ ومعناه: المألوه. أي المعبود حبًّا، وتعظيمًا. فهو الله، أي: الإله الحق، المعبود الحق، فالحمد لا يستحقه إلا من استحق العبادة، وهو الله تعالى، استحق الثناء باللسان، واستحق التذلل والخضوع والمحبة والتعظيم والخوف والرجاء والطاعة لأنه المعبود بحقٍّ؛ فما استحق الحمد وإخلاص العبودية إلا لكماله المطلق: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
عباد الله: إن من حقائق هذا الكمال: أنه سبحانه: (ربُّ العالمين) والرب هو: المالك المتصرف، ولا يستعمل الرب لغير الله، بل بالإضافة تقول: رب الدار، رب كذا، وأما الرب، فلا يقال إلا للحق عز وجل، وهذا الاسم جامع بمعناه في لسان العرب وبمعانيه في آيات القرآن جامع لثلاثة أوصاف: الخلق، والملك، والتدبير؛ فهو الخالقُ، المالك لكل شيء، المدبرُّ لجميع الأمور من الإحياء والإماتة، والرزق، والنفع والضُّر، والرفع والخفض، فهو قيوم السماوات والأرض ومن فيهن. والعالمين: جمع عالَم، وهو كل موجود سوى الله عز وجل، فنقول: عالم الجماد، وعالم النبات، وعالم الحيوان، وهكذا كل ما خلقه الحقُّ، فهو سبحانه رب العالم، ورب العوالم، ورب العالمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
أخي المسلم: إذا وقفت بين يدي الله، وبدأت بتعظيمه ومناجاته فقلت: (الحمد لله رب العالمين)، فاستحضر هذه المعاني كلها بقلبك وأنت تردد هذه الكلمات بلسانك، فإنك تقف تعظيمًا وإجلالًا ومحبةً بين يدي من يستحق المحامد كلها، والثناء كله، والذي يستحق وحده أن تخضع الجباه له تعبدًا وتذللًا وتقربًا، لأنه المتفرد بالخلق والملك والتدبير والتصرف، رب العالمين، لا رب سواه.
استحضار هذه المعاني، والتفكر فيها، بإيمان وصدق، يورث القلب تعظيمًا للحق سبحانه، وإجلالًا له، وتنزيهًا له عن النقائض والعيوب، وإقرارًا بكماله المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله. هذا اليقين، هذه المعرفة، هذه القوة الإيمانية، يحفظ المسلم ـ بعد توفيق الله وعونه ـ من الشبهات العارضة، والوساوس الشيطانية. هذا اليقين والإيمان يدفع عن المؤمن الصادق ضغوط النزعة المادية التي تريد أن تجعل الكون والحياة بعيدًا عن سلطان الله تعالى وإرادته وقيوميته. وتأملوا أحوال الذين يقرون بنظرية داروين، نظرية النشوء والارتقاء، نظرية التطور العضوي، يقرون بها وهم يزعمون أنهم مسلمون، أين هم من حقيقة: (الحمد لله رب العالمين)، لو كان في هذا الكون ذرة أو جزئية أو خلية تتطور تطورًا منتجًا لمخلوق فيه مظاهر الإبداع والإتقان والاختيار؛ فهل يصح بذلك: (الحمد لله رب العالمين)، إذن لم يكن الله ربًّا للعالمين، بل صار بعض الذرات أو الجزئيات أو الخلايا خارجًا عن ربوبيته، سواء في ذاته، أو في تصرفه واختياره وإنتاجه، فلم يكن الحق سبحانه ربًّا للعالمين من كل وجه، بل صارت ربوبيته ناقصة، ولما استحق الحمد كله، ولما استحق العبودية وحده، لهذا فإن أكثر دعاة نظرية التطور إنما هم دعاةُ عبادةِ المادة، بعد أن أسبلوا عليها بعض صفات الخالق الأعظم. لهذا قرن الحقُّ سبحانه حمد ذاته المقدسة بكمال ربوبيته وعلمه وقيوميته: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)}. فاللَّهُمَّ لك الحمد، أنت قيِّمُ السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، اللَّهُمَّ لك أسلمنا، وبك آمنا، فاغفر لي ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
- لا يوجد تعليقات بعد