موقع الشيخ عبد الحق التركماني - يا أيها الذين آمنوا اوفوا بالعقود

/ 21 تشرين الثاني 2024

للتواصل 00447432020200

يا أيها الذين آمنوا اوفوا بالعقود

نشرت بواسطة : إدارة الموقع 31 كانون الأول 2020 3857

عباد الله: إن الصدق في القول، والعدل في المعاملة، والوفاء بالوعد، والأداء للأمانة، والالتزام بموجبات العهود والمواثيق المشروعة؛ كلُّ ذلك من الواجبات الشرعيَّة اللازمة لكلِّ مسلمٍ، لا يختلف في وجوبها أحدٌ من المسلمين، فهو متقرِّرٌ بنصوص كثيرة من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، وعليه أجمع علماء الإسلام، وأقرَّ به المسلمون جيلاً بعد جيلٍ.

أمرنا الله تعالى بالوفاء بالعقود، فقال تعالى في أول سورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وأجمع أهل التفسير على أن معنى «العقود»: «العهود. كما قال ربنا في سورة الإسراء: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}. وأصل العقد: عقد الشيء بغيره، وهو وصله به، كما يُعقد الحبل بالحبلِ، إذا وُصل به شدًّا. يقال منه: عقد فلان بينه وبين فلان عقدًا، فهو يعقده. وذلك إذا وَاثَقَه على أمرٍ وعاهده عليه عهدًا بالوفاء له بما عاقده عليه، من أمانٍ، وذِمَّةٍ، أو نصرةٍ، أو نكاحٍ، أو بيعٍ، أو شِركةٍ، أو غير ذلك من العقود.

وقد امتدح الله تعالى المؤمنين الصادقين المفلحين فقال في وصفهم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إلى أن قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}. وقال: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177].

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الخيانة من صفات المنافقين، فقال صلى الله عليه وسلم: «آيةُ المنافق ثلاثٌ: إذا حدَّثَ كذَبَ، وإذا وعَدَ أخْلَفَ، وإذا ائْتُمِنَ خانَ». خ م وقال صلى الله عليه وسلم في حديثٍ آخرَ: «أربَعٌ مَن كُنَّ فيه كان مُنافقًا خالِصًا، ومَن كانتْ فيه خَصْلةٌ منهُنَّ كانت فيه خَصلةٌ مِنَ النِّفاق حتَّى يَدَعَها: إذا ائْتُمنَ خانَ، وإذا حَدَّثَ كذَبَ، وإذا عاهَدَ غدَرَ، وإذا خاصَمَ فَجَرَ». خ م. وإذا كان الغدرُ والخيانةُ من صفات المنافقين، فإنَّهما لن يكونا من صفات المؤمنين حقًّا، ولهذا كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول في خُطْبَته: «لا إِيْمانَ لمن لا أمانةَ له، ولا دِينَ لمن لا عَهْدَ له». حم.

ومن هنا فإنَّ أهلَ الخيانة والغدر يستحقُّون الفضيحةَ الكبرى يوم القيامة، كما أخبر الصَّادق المصدوق فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا جَمَعَ الله الأوَّلين والآخرين يوم القيامة؛ يُرفَعُ لكلِّ غادرٍ لواءٌ، فقيلَ: هذه غَدْرَةُ فلانِ بنِ فلانٍ». خ م.

والمسلم مخاطبٌ بهذه النُّصوص ودلالاتِها في أحواله كلِّها، حيثما كان، وأينما حلَّ، سواء كان تعامله مع أخيه المسلم، أو مع المخالف له في الدِّين والملَّة حربيًّا كان أم مسالمًا. هذا ما فهمه علماء الإسلام وقرَّروه في كتبهم، لما دلَّ عليه صريحُ القرآن وصحيح السُّنَّة.

فقد أمر الله تعالى بالعدل في معاملة المخالفين وإن كانوا أعداءً حربيِّين، فقال عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].

قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره هذه الآية: «يعني بذلك جلَّ ثناؤُه: يا أيُّها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمدٍ! ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيامُ لله شهداءَ بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم، فتُجاوِزُوا ما حدَّدتُ لكم في أعدائكم لعداوتهم لكم، ولا تقصِّروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم لكم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدِّي، واعملوا فيه بأمري. ولا يحملنَّكم عداوةُ قومٍ على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم، وسيرتكم بينهم، فتجُورُوا عليهم مِنْ أجلِ ما بينكم وبينهم من العداوة».

وأمر الله تعالى بالوفاء لهم بالعهد وجعله من صفات المتقين لربِّهم، فقال سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيُّما رَجُلٍ أَمَّنَ رجلاً على دَمِهِ ثُمَّ قتَلَه، فأَنَا مِنَ القاتل بَرِيءٌ، وإنْ كان المقتولُ كافرًا» حم.

وهذه البراءة من النبيِّ صلى الله عليه وسلم براءةٌ صريحةٌ من المسلم الذي يُقدِم على ذلك الفعل الشَّنيع، فهي براءة من الفعل والفاعل، فهو صلى الله عليه وسلم سيِّد الأوفياء والشرفاء، لا يرضَى بالغدر والخيانة، ولا بأهلهما، بخلاف من قد ينكر الفعلَ، ويسوِّغه للفاعلِ!

ومن هنا بيَّن العلماء أن هذه الأخلاقيَّات الإسلامية السَّامية من أصول الدِّين وقواعده الكليَّة، فلا بدَّ أن يلتزم بها المسلم حتَّى وإن انتقل من بلاد الإسلام إلى بلاد غير المسلمين، ولم يَقُلْ أحدٌ منهم أن هذه الأخلاقيَّات مصلحيَّة نفعيَّة، يجوز للمسلم أن يتخلَّى عنها، وينسلخ منها، إن كان في مجتمع غير مسلمٍ، أو كان تعاملُه مع غير المسلمين!

الخطبة الثانية:

عباد الله: أعظم العهود التي يجب الوفاء بها، والتزام موجبها، ويحرم نقضها ومخالفتها، هو عهد الله تعالى، فرب العالمين أحق من أوفى الإنسان بعهده معه، فقد خلقه لعبادته، وأمره بطاعته، وأرسل إليه رسوله، وأقام عليه حجته، كل ذلك موجب على العبد أن يفي لله تعالى بعهده أن يعبده ولا يشرك به شيئا، قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)}، وقال عز من قائل: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)}.

عباد الله: هكذا تبدأ قاعدة الوفاء بالعهد مع الله تعالى في إخلاص العبودية له، والتزام طاعته، ثم تتسع مساحة الوفاء بالعهود والمواثيق، وتحريم الخيانة والغدر، ليشمل علاقة المسلم بجميع الناس، من الصالحين والطالحين، والمسلمين والكفار. وقد كان سيدنا وحبيبنا رسول الله في الدرجة العليا في الوفاء بالعهد والسلامة من الغدر والخيانة، فهو الأسوة الحسنة، والقدوة الصالحة، والنموذج الأكمل للمؤمن التقي الورع. وفي سيرته العطرة من الأمثلة والوقائع في هذا الوفاء ما يبهر العقول، كيف لا وقد لقب قبل البعثة بالصادق الأمين عليه أفضل الصلاة والتسليم.

لقد كان أهل مكَّة يُودِعونَ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أماناتهم، لما يعلمون من صدقه وأمانته صلى الله عليه وسلم، فلم يخيِّب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظنَّهم فيه، ولا ضيَّع أماناتهم، رغمَ تلك الظروف الشديدة التي أحاطت به وأهمَّته، فقد اجتمعَتْ كلمةُ أكابر قريش ومجرميها على قتله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن له إلا أن يتعجَّل الخروج من مكة سرًّا ومعه أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه، فأمرَ ابنَ عمِّه: عليَّ بنَ أبي طالبٍ رضي الله عنه؛ أن يقيم بعدَه في مكَّة ثلاث ليالٍ وأيامها، حتَّى يؤدِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للنَّاس، حتَّى إذا فَرَغَ منها لَحِقَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.

وفي حديث صُلح الحديبية: أنَّ المغيرة بن شُعبة رضي الله عنه كان صحِبَ قومًا في الجاهلية، أي قبل إسلامه، فقتَلَهم، وأخذ أموالَهم، ثم جاء فأسلَم؛ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا الإسلامُ فأَقْبَلُ، وأما المالُ فلستُ منه في شيءٍ» خ، د: «أَمَّا الإِسلامُ فَقَدْ قَبِلْنَا، وأَمَّا المالُ فإنَّهُ مالُ غَدْرٍ؛ لا حاجةَ لَنَا فيه».

وفي صلح الحديبية واقعة أخرى عظيمة، دالة أصالة أخلاق النبي وسموها، فقد كان من شروط الصلح أن يردَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من يلحق به من كفار مكة مسلمًا أو يريد الإسلام، فجاءه هناك أبو جندلِ ابنُ سُهيل بن عمرو مسلمًا، فطالبوا به؛ فردَّه إليهم، فصرخَ أبو جندلٍ ـ بأعلى صوته ـ: يا معاشر المسلمين! أُردُّ إلى المشركين وقد جِئْتُ مسلمًا، ألا تَرونَ إلى ما لقيتُ؟! وكان قد عُذِّب عذابًا شديدًا في الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا جندلٍ! اصبِرْ واحتسبْ، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ جاعلٌ لكَ، ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، إنَّا قد عقَدْنا بيننا وبين القوم صُلْحًا، فأَعطيناهم على ذلكَ، وأعطونا عليه عهدًا، وإنَّا لن نَغْدِرَ بهم».

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد