موقع الشيخ عبد الحق التركماني - نداء الفطرة

/ 13 كانون الأول 2024

للتواصل 00447432020200

نداء الفطرة

نشرت بواسطة : إدارة الموقع 28 شباط 2020 3872

عباد الله: إن الله تعالى لم يخلقنا عبثًا، ولم يتركنا هملًا، بل خلقنا لغاية شريفة رفيعة، وهي عبادته وطاعته: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، ولتحقيق هذه الغاية كرَّم بني آدم بأن جعلهم عقلاء مميزين ناطقين، فوهبهم فطرة سليمة، وعقلًا رشيدًا، وحواسَّ صحيحة، يدركون بها الأشياء، ويتفكرون ويتدبرون، ويصنعون وينتجون، ويستغلون ما سخره الله تعالى لهم في السماء والأرض والبحار، كل ذلك: لتصلح حياتهم، ويقوموا بالغاية التي خلقوا من أجلها، فيعرفوا خالقهم، ويخضعوا له بالعبودية، ويذعنوا له بالطاعة. قال ربنا عزَّ من قائل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}، هذه الآية من سورة الإسراء المصرحة بتكريم الإنسان وتفضيله على كثير من المخلوقات ذكرها الله تعالى بعد ثلاث آيات هي موضوع خطبتنا اليوم وهي قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا}. عباد الله: هذه الآيات في تقرير ما نسميه بدليل الفطرة (دليل الفطرة) في معرفة الإنسان بربه وخالقه ومدبِّر أمره. فقد هيأ الله تعالى لهذا الإنسان الأدلة الكثيرة الدالة على وجوده وربوبيته وقدرته وتدبيره، منها الأدلة العقلية ومنها الأدلة الشرعية، وهذه الأدلة مذكورة في كتاب الله تعالى، فقد احتوى القرآن الكريم على أعظم الأدلة العقلية والشرعية على وجود الله وربوبيته، كما احتوى على هذا الدليل العظيم: دليل الفطرة.

نعم؛ إخوةَ الإيمان، قد غرس الله تعالى في داخل كل إنسان فطرة نقية سليمة طاهرة تدلُّه على وجود الخالق وربوبيته وقيوميته وعلى افتقار المخلوق الضعيف إليه افتقارًا ضروريًّا بحيث أنه مضطر إلى مناداته ومناجاته وعبادته بشعور داخليٍّ قويٍّ غرسه فيه خالقه العظيم.

عباد الله: هذه الفطرة توجب معرفة الله واللجوء إليه؛ لو بقيت على نقائها وصفائها، لكنها تتعرض للمؤثرات الخارجية فإن بها تنحرف عن مسارها، أو تختفي تحت ركام الشبهات والشهوات الشيطانية والنفسية والمجتمعية، فتتعطل الفطرة عن وظيفتها أو تضعف تأثيرها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلُّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجِّسانه).

عباد الله: في هذه الآيات ينبِّه الله تعالى عباده إلى هذا الدليل العظيم الملزم للعقلاء، دليل الفطرة، وذلك عندما يكون الإنسان في حال الصحة والقوة والعافية غافلًا عن ربه وخالقه، وقد انحرفت فطرته بسبب المؤثرات الخارجية فوقع في الشرك، إذا بهذا الإنسان يركب سفينة تمخُرُ عُباب البحر، فتتلاعب بها أمواجه، وتشتدُّ تقلباته، وفي ظلمة الليل، ومع انقطاع الأسباب، إلى من يلجأ هذا الإنسان الضعيف الصغير العاجز بين هذه الأمواج البحرية الهائجة، هنا تستيقظ فطرته، هنا يأتي النداء من أعماقه، بلا تخطيط ولا مقدمات ولا فلسفات؛ لينادي صادقًا مخلصًا: يا الله! يا الله! {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}، وفي سورة يونس يقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}، وفي سورة العنكبوت: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}، وفي سورة لقمان: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، وهكذا يبين الله تعالى في مواضع في كتابه هذا الدليل الفطري الدال على معرفة الإنسان بربه وخالقه، معرفة غرسها الله تعالى في كل نفس حتى تهتدي العقول وتسكن النفوس.

أيها المؤمنون: إن كل إنسان تمر به لحظات ومواقف يخرج من داخله نداء الفطرة قويًّا بارزًا، ليدله على الحقيقة الكبرى، لكن إذا انتهت لحظات الاضطرار، وذهبت الشدة والمحنة والخوف والقلق؛ إذا بالإنسان يعرض عن نداء الفطرة، ويسلم نفسه لداعي الشيطان والنفس والهوى، ويغتر بصحته وجاهه وماله وسلطانه، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقال عزَّ وجلَّ: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }. وهكذا أخبر الله تعالى في وصف حال الذين ركبوا الفلك فأخلصوا لله الدعاء: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا}، {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}.

عباد الله: إذن هذا هو دليل الفطرة الذي يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في وصفه: (إن الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة). لهذا فالواجب على المسلم تقوية هذه الفطرة بالتفكر في آيات الله في الآفاق والأنفس ودلائل عظمة الله وقدرته وعلمه وحكمته، ويصون هذه الفطرة من المفسدات وشرها الكفر والجحود والاستكبار، والاغترار بزينة الحياة الدنيا والانغماس في ملذاتها، والغفلة عن الله تعالى بالذنوب والمعاصي. وليتفكر المسلم في المصائب والنوازل التي تصيب البشر من الزلازل والبراكين والأمراض والأوبئة، كل ذلك من فعل الله تعالى الموجب ليقظة الفطرة، وتفكر الإنسان وتواضعه وعودته لخالقه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات.

الخطبة الثانية

عباد الله: الفطرة هي الميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني آدم قبل أن يخلقهم، وجعلها حجة قائمة عليهم، ومن أعظم أسباب رجوعهم إلى الحق الذي يجب لربهم، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. وإذا كان من أعظم مظاهر هذه الفطرة اضطرار الإنسان إلى خالقه حال الشدة والضيق، كما ذكرنا، فإن تاريخ البشرية كلها تدل على هذه الحقيقة، حيث التدين ضرورة يلجأ إليه الناس ويضطرون إليه بحثًا عن السكينة والطمأنينة وإرواء لعطش فطرتهم، وأيضًا: فقد سجلت الدراسات العلمية الحديثة آثار هذه الفطرة في نفس الإنسان منذ ولادته. ومن أشهر تلك الأبحاث البحث الذي نشره أحد علماء العقل والإدراك في جامعة أوكسفورد بعنوان: (الأطفال يولدون مؤمنين بالله)، حيث قرر فيه أن الأطفال الصغار لديهم القابلية المُسبقة للإيمان بـ“كائن متفوق”، لأنهم يعتبرون أن كلما في هذا العالم مخلوقٌ لسبب، حتى قال “إننا لو وضعنا مجموعة منهم على جزيرة لينشؤوا بمفردهم فسيؤمنون بالله". والأبحاث والدراسات في إثبات هذا كثيرة جدًّا، والذي نور الله تعالى قلبه بالإيمان في غنًى عنها بهذه الآية الكريمة من سورة إبراهيم: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}.

عباد الله: إن الفطرة هي الأساس لكل حق وخير وصواب دل الله عليه وأرشد إليه، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بالخالق ومحبته وإخلاص الدين له،  وما جاءت الرسالة الإلهية إلا لصيانتها وهدايتها وبيان الدين المفصل بأخباره وأحكامه وشرائعه وآدابه التي لا تُعلم إلا من طريق الوحي والنبوة، كل ذلك بما يوافق الفطرة ويقويها ويزيدها خيرًا وصلاحًا، لهذا جاءت شعائر الإسلام وشرائعه وأحكامه كلها موافقةً للفطرة لا معارضة ولا مخالفة لها، ولهذا أيضًا يوصف الإسلام بأنه دين الفطرة، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

اللهم احفظ علينا فطرنا وعقولنا، واهدنا للحق والصواب، وثبتنا على صراط المستقيم، ودينك القويم.

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد