خطبة التثبت في الأخبار

عباد الله: عصرنا هذا يسمى بعصر المعلومات والاتصالات، فقد تيسّرت فيه وسائل نقل المعلومات وتبادلها، وصارت مبذولة للصغير والكبير والفقير والغني والقريب والبعيد، ولا شك أنَّ هذا نعمة عظيمة إذا استُغلت تلك الوسائل فيما فيه الخير والنفع والفائدة، لكنَّها أيضًا سبب لشر عظيم وفساد عريض حيث يستغلها كثير من الناس في نشر الكفر والضلال والفسوق والفجور والفاحشة. وهذا موضوع واسع لا يمكننا التطرق إليه في خطبة واحدة، لكني أريد الإشارة إلى جانب واحد منه وهو انتشار الكذب والإشاعات والأباطيل وتداول الناس لها بوسائل الجوال ومواقع الانترنت والقنوات الفضائية. وقد أثَّر هذا على كثير من الناس فتغيرت أفكارهم وطاشت أحلامهم وتحيرت قلوبهم، ولا شكّ أنَّ فشوَّ الكذب وانتشاره بين الناس من علامات الساعة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم فما هو الواجب؟ ما هو واجب المسلم من هذه الظاهرة الكبيرة المؤثرة.
إنَّ المسلم عنده ميزان يزن به الأشياء وهو ميزان التثبت في الأخبار، وتحري الصدق في الأقوال، وعدم الانخداع بالأكاذيب والإشاعات، وعدم الحكم بالعاطفة والأوهام، فلا يصدق كل ما يقرأ ويسمع كما أنَّه لا يُحدّث بكل ما قرأ وسمع حتى يتثبّت ويتبيّن ويميّز الصدق من الكذب والحق من الباطل. هذا هو المنهج الشرعي الذي أمرنا الله تعالى به في كتابه فقال عز وجل في سورة الحجرات: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (٦)}. وفي قراءة متواترة صحيحة {فَتَثَبَّتُوا}، ففي هذه الآية الكريمة أدب جليل بالأمر بالتثبت والتبيُّن في الأخبار، والتأنِّي وعدم الاستعجال قبل أن يتبيَّن للإنسان حقيقة فيبني عليها عقيدة أو عملًا، وإلا فإنه إذا استعجل فحكم على الآخرين بالكفر أو القدح والتجريح، أو تصرَّف في حقهم تصرفًا معينًا بأن يستحلَّ دمائهم وأموالهم، أو اعتدى عليهم فإنه سرعان ما يندم على تصرفه أشدَّ الندامة عندما تظهر له حقائق الأمور، ويتبين له أنَّ أولئك القوم أو ذلك الشخص بريء من تلك التهمة، وأنَّ تلك الأخبار كانت مختلقة كاذبة.
عباد الله: إنَّ هذه الآية الكريمة أساس لمنهج التثبت في الإسلام، والتأدب بما أمر الله تعالى فيها من دلائل الإيمان والتقوى، ومخالفة هذا الأمر دليل على الجهل والسفه والاستعجال وقلة التقوى. قال ربنا عزَّ من قائل: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (٣٦)} [الإسراء]، ويقول نبينا صلى الله وسلم: (كفى بالمرء كذبًا أنْ يُحدِّث بكل ما سمع) «أخرجه مسلم في صحيحه» (5). ومن هنا أسس المسلمون علمًا خاصًا للتثبت في الأخبار وتمييز صحيحها من سخيمها وحقها من باطلها ألا وهو: علم الإسناد ـ علم مصطلح الحديث النبوي ـ وألفوا فيه مئات بل آلاف الكتب في تقييد السنن ومعرفة الرجال والجرح والتعديل وأصول السماع والرواية. هذا العلم ـ علم الحديث والإسناد ـ يتميز به المسلمون من بين سائر الأمم، حيث يروون أحاديث نبيهم صلى الله عليه وسلم وآثار أصحابه الكرام بالأسانيد المتصلة بالرواة المعروفين. فليس عند اليهود ليس عند اليهود إسناد واحد متصل يرويه علماؤهم عمَّن سبقهم حتى يصلوا إلى نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام، وكذلك النصارى ليس لهم إسناد متصل معروف بالرواية عن عيسى عليه الصلاة والسلام، بل كل ما عندهم كتب قد تداولتها الأيدي ونسخها مجهولون وأصابها تحريف وتبديل. أما أهل الاسلام فهم أهل الإسناد فكل حديث صحيح عندهم يروونه بالسند المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرفون كل راوٍ من رواة السند، فيعرفون اسمه ونَسَبَه ولقبه وموطنه ومنزلته في العلم والديانة والحفظ والأمانة.
فحريٌّ بنا إخوة الإيمان أن نلتزم بمنهج التثبّت في مسائل الديانة، وكذلك في جميع أمور الدنيا وأعلى ذلك وأهمه وأوجبه أن نتجنّب الكذب على الله، بأن نقول هذا أحله الله وهذا حرّمه الله وهذا دين الله وهذا شرع الله من غير أن يكون ذلك حكمُه ودينُه وشرعُه، فالكذب على الله هو أعظم الكذب وأقبحه قال ربنا سبحانه: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤)} [آل عمران]، وقال سبحانه: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (٥٠)} [النساء]، وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (٦٩)} [يونس].
ولابدَّ أيضًا أن نتجنّب الكذب في حديث النبي صلى الله عليه وسلم فلا نقبل أي حديث يُنسب إليه إلا إذا علمنا بصحته وثبوته عنه، ويُعرف ذلك بأن يكون الحديث في الصحيحين «صحيح الامام البخاري» أو «صحيح الامام مسلم» أو يكون أحد العلماء المختصين في علم الحديث قد حَكَمَ بصحته وحسنه وقبوله، أو ينقله لنا ثقة مأمون من العلماء أو طلبة العلم معروف بالتحرّي في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والنقل من الكتب الصحيحة المعتمدة، لأنَّ الكذب في الرواية عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم إثم عظيم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ كذبًا عليَّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) «أخرجه البخاري (1229) ومسلم» من حديث المغيرة ابن شعبة رضي الله عنه. وأخرج مسلم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حدَّثَ عني بحديث يَرى أنّه كذب فهو أحد الكاذبَين) وفي روايةٍ (من حدَّث عني بحديث يُرى أنَّه كذب فهو أحد الكاذبَين) «رواه مسلم في المقدمة (7)» قال النووي رحمه الله: فيه تغليظ الكذب والتعرّض له وإن غلب على ظنه كذب ما يرويه فرواه كان كاذبًا، وكيف لا يكون كاذبا وهو مخبر بما لم يكن «المنهاج في تعليقه على هذا الحديث».
إخوة الايمان: وأقبح الكذب بعد الكذب على الله وعلى رسوله هو الكذب على الصحابة الكرام وعلماء الأمة الأعلام، والكذب على أهل العلم والصلاح والاستقامة، والكذب على طلبة العلم والدعاة إلى الله تعالى واتهامهم بما ليس فيهم، والتقوّل عليهم بما ليس فيهم للتنفير منهم ومن دعوتهم، فهذا أعظم إثمًا من الكذب على عامة الناس ـ وإن كان الكذب محرمًا ـ سواء كان متعلقًا بحق المسلم أو بحق الكافر، فالمسلم لا يستحلّ الكذب على من يخالفه في الاعتقاد والديانة.
عباد الله: إنَّ كثيرًا من الناس سقطوا اليوم في الكذب والباطل بسبب عدم تثبتهم، وأخصُّ بالذكر ظاهرة تبادل رسائل الجوال والبريد الإلكتروني ومنتديات الإنترنت وغيرها،
فصاروا يُصدّقون بكل ما يقرؤون ويسمعون من غير تثبّت وبحث ونظر، وبعض تلك الأخبار يختلقها أعداء الإسلام لغرض تضليل المسلمين والسخرية بهم، ومَن يتابع حال المسلمين يجد عجبًا من الفراغ العلمي والانخداع بكل أكذوبة وتضليل والأمثلة كثيرة جدًا أذكر منها:
قصة الفتاة العُمانية التي تحولت لحيوان مشوَّه لأنها استهزأت بقراءة القرآن، وتناقل ملايين المسلمين صورها والحقيقة أنَّ تلك الصورة أو إن تلك الصور مأخوذة من أعمال فنية كما يقال منشورة على مواقع أجنبية.
وقصة الشاب الذي فتحوا قبره بعد ثلاث ساعات فوجدوه متفحمًا من أثر عذاب القبر، والحقيقة أنَّ تلك الصورة كانت لفتاة احترقت في حادثة ولم تكن لرجل في قبر. وعذاب القبر حق وأمر غيبي غير محسوس نؤمن به ولا نطلب دليلًا ماديًا عليه.
ثم قصة الأصوات التي صدرت من الأشجار في الغابة، ويدَّعي الخبر أنّ أحد العلماء صمّم جهازًا لفكّ شفرة الأصوات، ومن ثم وجد أنّها تنطق بكلمة الله فأسلم ذلك العالِم بعدها.
وقصة رائد الفضاء الذي سمع الأذان من على سطح القمر، والقصة المثيرة لإسلامه بعد عودته إلى الأرض.
وصورة لحديقة بألمانيا وقد كوَّنت جذوع الأشجار على الجانبين شهادة التوحيد مع الادّعاء أنَّ ألمانيا قد أغلقت الحقيقة.
وصورة جهاز رسم القلب في أحد المستشفيات الأمريكية لأحد المرضى يرسم كلمة الله.
وصورة الحرمين الشريفين تظهر مضيئة ليلًا في صور التقطتها الأقمار الصناعية، والحقيقة أنَّ الصورة ملفّقة بالفوتوشوب، حيث أنَّها التُقطت نهارًا ثم تم تغميق المباني المحيطة بالحرمين للإيحاء بأنها التُقطت في الظلام، وبيوت الله لا تحتاج الى هذه الأكاذيب فهي مضيئة بالمصلين الركع السجود. وهناك مئات السور للحجر والشجر والمظاهر الكونية يظهر فيها اسم الجلالة «الله» أو اسم النبي صلى الله عليه وسلم أو الشهادتين يتداولها المسلمون في مواقع الإنترنت.
هذه أمثلة قليلة من الأكاذيب التي انطلت على كثير من المسلمين وصاروا يصدقونها، وبعضهم يبعث إليك بريدًا الكترونيًا ويحثك على نشره ويستحلف بالله أن تنشره ولك الأجر والثواب ولك كذا وكذا من الحسنات، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على الفراغ العلمي والروحي، فالمسلم الحق يكفيه دلائل الكتاب والسنة وآيات الله تعالى في الآفاق والأنفس، لا نحتاج في الدعوة إلى الله والحثّ على الخير إلى الكذب وإلى الصور الملفّقة وإلى الحكايات المثيرة للعواطف، وإنما يكفينا كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وتذكروا عباد الله قول التابعي الجليل محمد ابن سيرين رحمه الله تعالى إذ يقول: (إنَّ هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم).
أسأل الله سبحانه أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه.
- لا يوجد تعليقات بعد