موقع الشيخ عبد الحق التركماني - من يحكم العالم؟

/ 26 كانون الأول 2024

للتواصل 00447432020200

من يحكم العالم؟

نشرت بواسطة : إدارة الموقع 19 حزيران 2009 1289

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102)} [آل عمران]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)  يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب].

أمّا بعد:

فإنَّ أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمّد صلَّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثةٍ بدعة وكل بدعةٍ ضلالة.

عباد الله: سؤال ما أكثر ما يطرح في هذه الأيام: من يحكم العالم؟ نعم؛ من يحكم العالم؟ وليس من المستغرب أن يشغل هذا السؤال بال أهل الكفر والإلحاد لأنهم لا يؤمنون إلا بالمادة والسلطة والنفوذ والقوة الظاهرة، ولكن المستغرب حقًا أن يجد هذا السؤال مكانًا في قلوب وعقول كثير من المسلمين، من يحكم العالم؟ إن هذا السؤال لا يصح أن يَسأله مسلم ولا ينبغي أن يُسأله مسلم لأن جوابه صريح واضح قطعي من صلب عقيدته وإيمانه وهو بيقين لا شك فيه إن الذي يحكم العالم هو الله عز وجل ليس له شريك في الملك ولا ولي من الذل، بل الملك ملكه والحكم حكمه والأمر أمره ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن؛ هذا من ضرورات عقيدة كل مسلم ومسلمة، هذا هو الاعتقاد الصحيح الذي لا يصح إسلام عبد إلا به، يقول ربنا سبحانه في سورة آل عمران آمراً نبيه وهو أمر لكل من اتبعه إلى يوم القيامة: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} [آل عمران]، فتأملوا يا عباد الله، تأملوا هذه الآية العظيمة كيف أمرنا الله فيها أن نقول ونجهر لا أن نعتقد ونقر فقط بل نقول ونجهر وندعو ونعلم خاضعين مذعنين لربوبية الله تعالى فهو وحده الذي يعطي الملك من يشاء ويمنعه ممن يشاء، العزيز من أعزه الله، والذليل من أذله الله، ومن هنا كان أقبح اسم وأحقره أن يلقب ملك نفسه بلقب ملك الملوك، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَخْنَعَ اسمٍ عند اللهِ رَجلٌ تَسمَّى مَلِكَ الأَمْلاكِ، لا مالكَ إِلَّا اللهُ»، قال سفيان بن عيينة رحمه الله: ملك الملوك مثل شاهان شاه بالفارسية، و«أَخْنَعَ» معناه: «أَوْضَعَ»، والحديث أخرجه البخاري ومسلم وفي لفظ في صحيح مسلم: «أَغْيَظُ رجُلٍ على اللهِ يوم القيامةِ وأَخْبَثُهُ رجلٍ كان يُسمَّى ملكَ الأَمْلَاكِ، لا ملكَ إِلَّا اللهُ»، ومن هنا نهى العلماء عن التسمي بقاضي القضاة وبنحوه من العبارات.

إذن، فإطلاق القول بأن القوم الفلاني يحكمون العالم وأن المنظمة الفلانية تحكم العالم، وأن العالم تحكمه المنظمات السرية والأيدي الخفية، هذا كله خلل في العقيدة، ونقص في توحيد الله وتعظيمه وإجلاله، وهذا الكلام من أوضع الكلام وأخبثه، فالمسلم الحق هو الذي يشاهد بعين الإيمان واليقين، والعلم والبصيرة أن الحكم كله بيد الله وحده، وأن ما يجري في العالم فكله بإرادة الله واختياره، بمقتضى علمه سبحانه، وحكمته وعدله ورحمته كما قال عز وجل: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف:32]، وقال ربنا عز من قائل: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)} [البقرة]، وعندما أخبر الله تعالى عن حوار إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع الطاغية نمرود، وكان نمرود صاحب ملك عظيم وسلطان كبير، قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة:258]، فأخبر الله تعالى أنه هو سبحانه الذي آتى نمرود الطاغية الكافر الملك الذي كان له، وكذا أخبر ربنا في قصة طالوت وهو رجل صالح، لكنه كان جنديًا من أسرة متواضعة فقيرة حتى لم يره قومه أهلاً لأن يكون ملكًا وقائدًا فقال ربنا سبحانه: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)} [البقرة].

إخوة الإيمان: ليس المقصود بهذا أننا ننكر وجود منظمات سرية وقوى خفية، ومخططات ماكرة رهيبة، لأصحاب رؤوس الأموال والسلطة والنفوذ، لكن المسلم لا يبالغ فيها، ولا يعتقد أن تلك المنظمات والجهات بلغت من القوة والسلطة بحيث صارت تحكم العالم، فتنصب من تشاء وتبعد من تشاء وتختار من تشاء وترفض من تشاء، فكلما حدث شيءٌ في العالم فهي بفعلهم واختيارهم وتصرفهم، لا شك أن هذه المبالغة ضلال بعيد، لكن الاعتقاد الصحيح أن تلك المنظمات والجهات والمؤسسات وأصحاب رؤوس الأموال والسلطة والنفوذ سبب من الأسباب المؤثرة بإذن الله، تنجح مرة وتفشل مرات، وقد تخطط تلك المنظمات والجهات لأمر ما فتأتي النتائج بعكس تلك المخططات، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30].

هذه سنة الله في خلقه، أهل الشر والفساد يخططون وينسجون المؤامرات فلا يكون إلا ما أراده الله تعالى وحكم به بمقتضى حكمته وعدله، كما قال ربنا سبحانه: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال]، وقال عز وجل: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)} [الرعد]، وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)} [الأنعام]، وقال سبحانه: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)} [النحل]، وهذا كله بمقتضى حكمة الله وسنة التدافع التي بين القوى الأرضية، قال الله سبحانه: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)} [البقرة]، وقال سبحانه: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} [الحج].

وتأملوا عباد الله تأملوا قصة فرعون ففيها العبرة والعظة، قد بلغ في الملك والسلطان مبلغًا عظيمًا فطغى وبغى و{قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)} [الزخرف]، وقال {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} [النازعات]، فكيف كانت نهايته، كانت نهايته بطفل رضيع يربيه في قصره حتى إذا بلغ مبلغ الرجال اختاره الله تعالى للنبوة والرسالة وبعثه إلى فرعون، فلما استكبر وعاند كان في ذلك هلاكه وزوال ملكه، ولهذا كان موسى عليه الصلاة والسلام يربي أتباعه المؤمنين تربية إيمانية صحيحة فيربطهم بالله ويقوي صبرهم وإيمانهم وتعلقهم بالله عز وجل فيقول كما أخبر ربنا سبحانه: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)} [الأعراف]، فماذا كانت النتيجة؟ ماذا كانت نتيجة الصبر والاستعانة والتوكل والثبات على الأمر؟ إن ذلك قد أخبر به الله تعالى في آخر هذه القصة: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}، بماذا تمت كلمة ربك على بني إسرائيل؟ {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)} [الأعراف].

جعلني الله وإياكم من أهل الاستعانة والصبر والثبات على الأمر، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه.

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد