الاعتبار والتفكر في الأحوال الكونية

عباد الله: تحيط بنا التغيرات الكونية من تغير الفصول والأحوال، وانتقال الجو من الحرارة الشديدة إلى البرد الشديد، وتساقط الثلج وهطول الأمطار، وحصول العواصف والكوارث، وغير ذلك مما لا يخفى على أحد فهي محيطة بكل أحد. وحال أكثر الناس النظر في الأحوال وتناقل الأخبار بلا تفكر ولا تدبر، ولا توقف لأخذ العظة والعبرة. ولهذا مدح الله عباده المؤمنين الذين يقفون عند هذه الآيات للتفكر والتدبر وذلك هو حال المؤمنين كما قال ربنا سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٩١)} [آل عمران].
فذكر الله في هذه الآيات ثلاثة أمور متركبة بعضها على بعض
الأول: تفكر أولي الألباب، أولي العقول، أولي المدارك السليمة الذين يستعملون عقولهم في التفكر في آيات الله وخلقه واختلاف الليل والنهار، هؤلاء يذكرون الله قيامًا وقعودًا ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، فإنّ استعمالهم لعقولهم وتفكرهم وتدبرهم يحملهم على ذكر الله عز وجل على أحوالهم كلها، وفي حالاتهم كلها وثمرة ذلك ونتيجته تقوى الله وخشيته {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} تدبرهم وتفكرهم ونظرهم إلى حقائق الامور بعقولهم لا بمجرد عيونهم، كل ذلك حملهم على خشية الله وتقواه فقالوا: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. وقال ربنا سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)} [البقرة]، إنهم يستعملون عقولهم وينظرون إلى الحقائق نظرة تدبر وتفكر، ويبصرونها بقلوبهم.
إن هذا كله يحمل الانسان على استحضار عظمة الله وجلاله، ويحمله على إدراك ضعف الإنسان وعجزه أمام قدرة الله وحكمه، فلا يستطيعون دفعًا لما أراده الله بهم من النوازل ولا رفعًا لما وقع عليهم من الكوارث العظيمة. يقول ربنا سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)} [القصص].
عباد الله: عندما يقول ربنا سبحانه: {أَفَلا تَسْمَعُونَ}، {أَفَلا تُبْصِرُونَ}، فإنه يأمرنا أن نستعمل الفائدة والغاية من السمع والبصر، فلا يكون نظرنا إلى الحوادث بمجرد البصر دون بصيرة وتفكر، ولا سمعنا بمجرد حصول استماع الصوت من غير تدبر وتفكر وتعقل.
عباد الله: إنَّ هذا التفكر والتدبر يحمل على تعظيم الله تعالى وإجلاله سبحانه، والاعتراف له بالوحدانية والتفرد بالقدرة والتصرف، وذلك يوجب توحيده والخضوع له والإخلاص له في العبادة والقصد، وعلى خشية الله وتقواه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)} [يونس]. ويقول ربنا سبحانه: {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)} [يونس]. ويقول ربنا سبحانه: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)} [لقمان].
إنّ الذين لا يؤمنون، والذين لا يتقون، والذين لا يتفكرون، لا يقفون عند هذه الآيات موقف العبد الذليل الذي يعترف بعجزه وضعفه، ويعترف لربه بالقدرة والتصرف والإرادة، فيزعمون أنهم يخططون لتسيير مناخ الأرض، والسيطرة على التغيرات المناخية في العالم فكأنهم يريدون أن يدعوا الربوبية والحكم فيما يحصل في العالم من تغيرات، وكل ذلك استكبار يذله ويفضحه تلك التغيرات التي لا سبيل لأحد من البشر الوقوف أمامها.
وقال عزَّ وجلَّ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)} [الروم]. فما يحصل في الكون موجب لتقوى الله وخشيته، وموجب للتعقل والتدبر، وموجب للخضوع والاعتراف لله سبحانه وتعالى بالتفرد بالقدرة والقوة. وموجب للحمد والشكر لمستحقه وهو الله سبحانه وتعالى. لهذا أمر الله تعالى عباده بالنظر والتأمل والتفكر في عظيم صنعه وعجيب قدرته؛ ليزدادوا يقيناً بأن الله هو الحق وأنه تعالى هو العلي الكبير والآيات في هذا الشأن كثيرة جدًا في كتاب الله تعالى، يقول ربنا عز من قائل: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ (185)} [الأعراف].
عباد الله: الواجب علينا التفكر والتدبر بهذه الظواهر، والنظر في آثار خلق الله وصنعه، فيحمل ذلك على إخلاص العبادة، ويحمل ذلك على توجه القصد والإرادة لتحقيق العبودية لله تعال بطاعته فيما أمر، واجتناب معصيته فيما نهر، فيما عنه نهى سبحانه وتعالى. ولقد كان بعض الصالحين يقول: "ما سمعت الأذان قط إلا ذكرت منادي الحشر، ولا رأيت تساقط الثلج إلا تذكرت تطاير الصحف يوم القيامة". وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على التفكر والتدبر في الآيات والحوادث والنوازل، ليكون ذلك تثبيت لإيمانهم وتعليق للقلوب بربها. من ذلك أنه لما مات ابنه ابراهيم عليه السلام، وانكسفت الشمس ذلك اليوم، خطب الناس فحمد الله وأنثى عليه، ثم قال: (أما بعد، أيها الناس، إن أهل الجاهلية كانوا يقولون إن الشمس والقمر لا يخسفان إلا لموت عظيم، ألا وإنهما آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوف الله به عباده، فإذا رأيتم شيئا من ذلك فافزعوا إلى ذكره، ودعائه واستغفاره، وإلى الصدقة والعتاقة والصلاة في المساجد حتى تنكشف) «صحيح مسلم» (904).
فانظروا عباد الله كيف أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وجَّه أصحابه في ذلك الموقف إلى التعلق بالله، وإلى التعلق بالذي بيده ملكوت السماوات والأرض ويسير الشمس والقمر والنجوم والكواكب حيث يشاء فيوجب ذلك التوجه إلى ذكر الله وعبادته والاستغفار والتوبة والإنابة.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم من المتدبرين لآياته، المتفكرين في صنعه وخلقه، ويزيدنا إيمانًا وتسليمًا وصلاحًا بمنّه وفضله وعطائه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه.
- لا يوجد تعليقات بعد