مفهوم الشريعة
الشريعة: هذه الكلمة العظيمة صارت مصدر رعب وخوف عند كثير من الناس، عند غير المسلمين.. بل وعند بعض المسلمين أيضًا.. لأن غير المسلم يراها كلمة خطيرة دالة على الوحشية والتخلف والعنف والإرهاب... وكثير من المسلمين صار يخاف أن يتهم بتأييد الشريعة فيكون ذلك سببًا لاتهامه بتهم ظالمة بشعة... فالشريعة عند هؤلاء وأولئك القتل والجلد والقطع وما إلى ذلك من العقوبات...
والسبب في هذا أن دلالة هذه الكلمة المباركة (الشريعة) قد أصيبت بالتحريف في أذهان غير المسلمين بسبب الإعلام والتشويه المقصود، كما أًيبت بالتحريف أيضًا بسبب بعض الدعوات والممارسات المنحرفة عند بعض أفراد المسلمين وجماعاتهم.
لهذا فمن الأهمية بمكان أن ندرك ونفقه المقصود بالشريعة، حتى نلتزم بالمفهوم الصحيح في أنفسنا ونربي عليه أولادنا، وندعو إليه غيرها، ونرد الشبهات والاتهامات التي تطلق ضد الشريعة الإسلامية.
عباد الله: الشريعة في اللغة العربية كلمة تطلق على كل شيء مفتوح على امتداد فيه، فيسمون الموضع الذي فيه الماء الجاري الظاهر المعين مثل الأنهار: يسمونها شريعة، لأنها مورد الناس لطلب الماء وسميت بذلك لوضوحها وظهورها وجمعها. لهذا يسمى الطريق: بالشارع، فالشَّريعةُ ما سَنَّ الله من الدِّين وأَمرَ به، لأنها واضحة ظاهرة مستقيمة، يرد الناس إليها ليأخذوا منها أحكام دينهم، كما يرد الناس على منحدر الماء للاستسقاء منه.
عباد الله: تطلق الشريعة ويراد بها أحد معنيين:
المعنى الأول وهو المعنى العام: الدين كله، فدين الإسلام كله شريعة الله، فالمراد بالشريعة كل ما في دين الإسلام من الاعتقادات والعبادات والأقوال والأفعال والأخلاق والآداب والمعاملات والأحكام. {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} (الشورى 13).
المعنى الثاني: تطلق الشريعة ويراد بها الجانب العملي من الإسلام، أي ما عدا العقيدة، فالإسلام بهذا المعنى قسمان: قسم العقيدة وقسم الشريعة.
فالقسم الأول: العقيدة هو الجانب العلمي المتضمن للتصديق والإقرار والإذعان والإيمان، وحده وبأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وأنَّه الربُّ الخالق المالك المتصرِّفُ، المستحقُّ وحده للعبادة. والعبادة هي الغرض الذي من أجله خلق الله تعالى الجنَّ والإنس، فلا ندعو إلا الله، ولا نستعين إلا به، ولا نتوكَّل إلا عليه، ولا نصلي ونسجد إلا له وحده. والإيمان بملائكة الله تعالى، وبكتبه التي أنزلها على رُسله، وبأنبيائه ورسله أجمعين، وباليوم الآخر والجنَّة والنار، وبقضاء الله تعالى وقدره.. وجميع ما أخبر الله به وأخبر به رسوله وأمرا بتصديقه والإيمان به... فهذا القسم يتعلق بالعلم والاعتقاد.
أما القسم الثاني: فهو الشريعة، فالشريعة هي الجانب العملي، وهو كل ما أمرنا الله تعالى بفعله، أو أمرنا بتركه واجتنابه، من الأقوال والأفعال، فهو يشمل العبادات والمعاملات والأخلاق والتصرفات كلها. وجاءت الشريعة بهذا المعنى الخاص في قوله تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]؛ فالمقصود في هذه الآية الشرائع دون العقائد، لأن العقيدة واحدة في كلِّ أمة، وعلى لسان كل نبيٍّ ورسولٍ، وأساسها: التوحيدُ والإِخلاصُ لله وحده، وهو الدين الواحد الذي لا يُقبل غيره، أما الأحكام الشرعية العمليَّة فأصولها واحدة، لكنَّها تختلف في تفاصيلها وجزئياتها بما يناسب كلَّ أمَّة.
إخوة الإيمان: إذا عرفنا هذا التفصيل، وفهمنا أن الشريعة تطلق ويراد بها دين الإسلام كلُّه وهذا المعنى العام، وتطلق الشريعة ويراد بها القسم العملي من الدين وهذا المعنى الخاص، بهذا نفهم ـ إخواني ـ أن الشريعة كيفما أطلقت فهي تدل على ما شرعه الله لنا من العبادات والأخلاق والمعاملات. فمن الشريعة: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً.
ومن الشريعة: برُّ الوالدين، وصلة الأرحام، وكفالة الأيتام، ومعونة الفقراء، ونصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف، وحسن الجوار، وإكرام الضيف، والرِّفق بالحيوان، وصدق الحديث، وحسن العشرة، وكرم الأخلاق، والصَّبر الجميل، والعفو والسَّماحة، والإحسان إلى القريب والبعيد، وإلى المسلم والكافر. ومن الشريعة: الصدق في المعاملة، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهود والعقود. ومن الشريعة: تحريم الظلم والبغي، والغدر والخيانة، والاعتداء على الأنفس والأموال والأعراض، وتعظيم أمر الدماء، وتحريم الزِّنَى والسرقة والخمر والمخدِّرات، وسائر الفواحش والمنكرات.
فإذا تجلَّى لنا هذا المفهوم الواسع والشامل للشريعة؛ علمنا أنَّ المسلمَ يستطيع الالتزام بأهمِّ أحكام الشريعة وأكثرها، والعمل بها، وإن كان مقيمًا في بلدٍ لغير المسلمين، ولا تفوته من الشريعة إلا الأحكام الخاصَّة بمجتمع المسلمين ودولتهم.
فهل يجوز لعاقل أن يرمي الشريعة الإسلامية بتلك التهم الباطلة وهي متضمنة لتلك العبادات الشريفة، والأخلاق الرفيعة، وفيها الأمر بالبر والإحسان والعدل والخير مع الناس جميعًا، حتى أنها شملت برحمتها الحيوان، فوردت في الشريعة أحكام الرفق بالحيوانات حتى في ركوبها وفي ذبحها...
عباد الله: إنه لمن الظلم الكبير بالشريعة الإسلامية ومن التشويه الخطير لها: أن يكون مفهومها في ذهن أكثر الناس ـ حتى لدى كثير من المسلمين للأسف ـ لا يتجاوز أحكام القصاص والحدود والعقوبات كقطع يد السارق وجلد الزاني أو شارب الخمر، وأحكام حجاب المرأة، ونحو ذلك! ولا شك أن الشريعة تضمنت لتلك الأحكام، لكنها في الحقيقة ـ أعني أحكام القصاص والحدود والعقوبات ـ هي جزء يسير من شريعة الإسلام مقارنة بما أشرنا إليها من أحكام الاعتقادات والعبادات والمعاملات والأخلاق.
وإطلاق لفظ الشريعة بالمعنى الضيق الذي يقصدونه ـ أحكام القصاص والحدود والعقوبات ـ هذا المعنى الضيق لم يرد في القرآن ولا في السنة ولا استعمله المسلمون في العصور السابقة، ثم إنَّ أحكام القصاص والحدود لا يجوز العمل بها ـ حسب حكم الشريعة نفسها ـ إلا في بلاد المسلمين، ولا يجوز تنفيذها ـ حسب حكم الشريعة أيضًا ـ إلا من قبل وليِّ الأمر الذي له نفوذٌ وسلطانٌ وجهازٌ قضائيٌّ.. ومن هنا فإننا نحن المسلمين في هذه البلاد لا ندعو إلى الشريعة بهذا المعنى الخاص الذي لا يجوز العمل به إلا في بلاد المسلمين، لا ندعو إلى الشريعة بمعنى الأنظمة والقوانين العامة فهي خاصة بالدول الإسلامية... ولكننا ندعو إلى الشريعة ونتعلمها ونلتزم بها بل نفتخر بها، بالمعنى الذي شرحته لكم، فهي الدين كله، فيها العقيدة الصحيحة الواضحة الموافقة للعقول والفطر الخالية من الخرافات والخزعبلات، وفيها العبادات السمحة الشريفة الخالية من تعذيب النفوس وتشويه الحياة، وفيها مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال والبر والإحسان.
{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
- لا يوجد تعليقات بعد